حسن عودة الماجدي
لا شك في أن الإسلام قد أعطى بعداً إنسانياً وأخلاقياً، وتسامح مع كل أبناء البشر بغض النظر عن الأصول والمسميات، وأعلن الرفض المطلق لمخلفات المفاهيم الجاهلية القبلية التي توطنت منذ الأزل عند القبائل العراقية، قبل الدعوة الإسلامية.
وتوكيداً لذلك، جواب الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، عن أسئلة القوم، قيل: يا بن رسول الله، أيكون من العصبية حبّ الرجل أهلَه وعشيرتَه وقومَه؟ قال: لا، العصبيةُ أن تجعل من شرار قومك خيراً من خيار غيرهم. وفي هذا المقام نقرّ بالوجود العشائري من حيث التكوين الأزلي، كونه النظام الاجتماعي والاقتصادي وكذلك السياسي المفصّل على مقياس وحدة العشيرة، كونها، أي العشيرة، مسؤولة الإشراف، داخلياً وخارجياً، عن أفرادها بما يوفر ذلك الحماية والأمن للجميع بموجب ضوابط وتقاليد وبنود شفهية تواضعت عليها مجموعة رؤساء القبائل والعشائر والأفخاذ. لكن المؤسف في هذا الباب، أنّ الضوابط المشار إليها لم تكن مطابقة للأحكام الشرعية لأنّها مشرّعة وموضوعة من قبل أناس بعيدين من الحكم الشرعي الذي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع المبيّن في مباحث الحكم عند الأصوليين، إذ إنّ خطاب الشارع هو كلام الله تعالى، سواء كان كلامه ضمن القرآن المجيد، أو كان ضمن السّنة الشّريفة، باعتبار أنّ النبي (ص) "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى" سورة النجم / آية 3-4.
لكن الماسك بالزمام، في الوقت الراهن، هو العرف الذي يجسد رغبات رؤساء العشائر العراقية على مختلف الدّيّات بغض النظر عمّا يلحق الضرر في المعضلة. المهم إرضاء شيخ العشيرة، ومثال ذلك في الحدّ عندهم، سواء كان الموضوع قتلاً عمداً، أو خطأً، أو الشبيه بالعمد أو بالخطأ، أو أيّ أمر لا يوافق مزاج أحد أفراد العشيرة، أو على أيّ موضوع قابل للدّيّة، أو غير قابل، كما في الحد عندهم. في حين أنّ الشارع المقدس قد وضع حدّاً واضحا لمختلف الدّيّات، والتي نعتذر من ذكرها في هذا المقام وذلك لتشعب مراميها، ونكتفي بالمضمون العام كالدّيّة المقدّرة شرعاً، وتسمى حداً، والثابتة شرعا وغير المقدّرة قطعا فيوكل أمرها إلى الحاكم الشرعي، وتسمى تعزيرا، فعندما يطبّق كما يجب المضمون الأخير، من قبل رؤساء العشائر ومن على شاكلتهم، فقد تحقق ما جاء في الكتاب المنزل "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ" سورة البيّنة / آية 7.
ومن هذا التلازم الروحي الأكبر بين الشعوب والقبائل ستزدهر الحياة بألوان المحبة وطمر الفتنة إلى الأبد، بعيداً عن الخوض في زحمة الاستغراق الذي جعلوا من كفة حاكميتهم تعلو على حاكمية الخالق سبحانه وتعالى، إذ تنصّلوا ممّا جاء في الحكم الشرعي المشار إليه، والمستند أصلاً على ما مذكور في القرآن والسنّة الشّريفة، فضلا عن الخطاب التحذيري لآدم أبي البشر"ع"، الموجّه لكل آدميّ حتى آخر آدمي سيولد على هذه الأرض، وهما خطابان لا ثالث لهما: إمّا أن يكون إنسان الله، وإمّا أنْ يكون إنسان الشيطان، وفي هذا يقول عليه السلام: إنّ الربح والخسارة أوضح من الواضح؛ كون الشيطان لا يعطي سوى الخيبة، وكونه عاجزاً عن الدفاع عن نفسه فكيف يتولاه ويدافع عنه، وكذلك التحذير الثاني عن الأئمة "ع" الموجّه إلى رؤساء العشائر، وهو على كل منْ يتولى رئاسة قوم فإنّه يُسأل عن كل شاردة وواردة يوم القيامة، وأنّ ممّن لا يشم ريح الجنّة، والقول للأئمة عليهم السلام، منْ تولّى عَرافَة قوم، أي رئاستهم، فلا ينفع عند الحساب الآخر لا وزيرا ولا أميرا ولا شيخ العشيرة المتغطرس إلّا منْ أتى الله بقلب سليم.
لذلك، كان السلف الصالح يتهرب من الزعامات ورعا واحتياطا لدينهم وفرارا من الوقوع في المزالق، فمن يتبوّأ مثل هذه المقاعد فليضاعف الحذر أمام الله سبحانه وتعالى، وليكن على معرفة تامّة بأحكام الشريعة المقدسة.