استثمار اليأس

آراء 2020/02/24
...

ساطع راجي
ما زالت لحظة صعود النازية إلى السلطة عبر الانتخابات، وقبول جزء مهم من الجماهير الألمانية بالاجراءات النازية الإرهابية الدموية، جرحا غائرا في الذاكرة السياسية الغربية؛ لقد تبيّن أن الديمقراطية مثلها مثل حكم الاستبداد يمكن، كذلك، أن تنتج وحوشا كاسرة حتى في قلب قارة الحداثة والتنوير والمساواة، إذ كان المجتمع الألماني مساهما فعالا في انتاج الفلسفة والعلوم والفنون الحديثة، ويمكن أن تختار أغلبية المواطنين حزبا عدوانيا ليمثلها وتعلّق عليه آمالها وذلك في لحظة يأس مرّ بها الشعب الألماني، لحظة دفعت للشك في جدوى الديمقراطية والحريات العامة وقيم الحداثة بسبب عار الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، الذي تجسد في خضوع للقوى الكبرى المنتصرة وإفقار للشعب الألماني.
تكررت الحالة الألمانية، مع فارق الظروف، في أكثر من بلد أوروبي خلال السنوات القليلة الماضية عبر ما عرف بصعود النازيين الجدد، أو الشعبويين اليمينيين. وحتى ألمانيا التي تعيش حساسية مفرطة لكل ما هو يميني قومي منذ العام 1945 وجد فيها الشعبويون فرصة للظهور إلى السطح. المواطنون الأوروبيون شعروا باليأس من اجراءات اتّحادهم وما ترتب عنها من تردٍ اقتصادي دفع بعض الدول إلى حافة الإفلاس، اليونان مثلا. بينما شعر آخرون، الألمان مثلا، أنّ سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه قضية الهجرة تهدد استقرارهم الاجتماعي وتعرّض تفوقهم الاقتصادي للخطر.
الخلاصة هنا، إنّ سوء الأوضاع المعيشية، والقلق على المستقبل، قد تدفع نسبة كبيرة من المواطنين إلى رفض أفضل النظم السياسية وأكثرها إنسانية في حيز الأفكار، ومتقدمة في جوانب تطبيقية كثيرة بتأثير الشعور باليأس من قدرة النظام على التعامل مع مشكلاتهم وحلّها وتأمين مستقبل مستقر لأبنائهم. لحظة اليأس هذه تدميرية في المجتمعات التي تحكمها نظم ديمقراطية، لأن المواطنين يذهبون بأنفسهم نحو الحلول الأسوأ وانتخاب القوى الأكثر تطرفا. هذه الخيارات تدميرية لأنّها، خلال التنفيس عن الغضب، تقدّم وصفة انتقام ضخمة تستهدف قائمة طويلة ممّن يوصوفون حقا وباطلا بأنّهم "أعداء الشعب"، من فاسدين ولصوص وعملاء وأجانب. لكنِ القوى المتطرفة، غير الديمقراطية، الصاعدة إنّما تقوم عمليا بالتخلص من منافسيها لتطبق هي وحدها على مقاليد الحكم وتنزع من الشعب سلطته وحقوقه في النقد والتغيير وستبقى تقول عن نفسها إنّها "خيار الشعب وقراره الحر عبر الانتخابات"، وإنّ وجودها شرعي رغم أنّها ستكون قد نسفت شرعية النظام عبر العنف.
العراق بحاجة لبرنامج يقصي اليأس ويحميه من دخول نفق الاختيارات الخاطئة التي تحاول قوى عدة الاعتماد عليه لفرض هيمنتها المطلقة وتقديم نفسها كـ"علاج تاريخي" لكل أخطاء وأمراض المرحلة الراهنة، لإنّ تماسك المجتمع العراقي ووحدة دولته لن يتحملا هكذا وباء مهما كان مؤقتا وعابرا.في الديمقراطية هناك صعوبات، كالتي في العراق، ومع موروث ضخم من معاداة الحرية السياسية والبناء الحديث للسلطة، تكون لحظة اليأس الشعبي أكثر تدميرا، ولذلك فإنّ طرح برنامج سياسي تفصيلي لردع اليأس وتفكيكه صار ضرورة للجميع، حكّاما ومحكومين، في ظل وجود قوى داخلية وخارجية على استعداد لفعل كل شيء حتى تؤكد صواب وجهة نظرها القائلة بعدم صلاحية الديمقراطية والنظم السياسية الحديثة لحكم مجتمعات منطقة الشرق الأوسط.