رسائــل الشـهـادة

آراء 2020/02/24
...

حسين الذكر
إن الحضارة لم تكن وليدة نزوة ولا مخاض رغبة ما، بل هي عصارة فكر وقوة إرادة معمدة بالتضحيات، ما جسم منها وفات وآت، فالدم لم يكن نهرا استثنائيا إلا عبر دفقات فداء في سبيل الأحياء على طريق رقي الشعوب والأمم والعيش بحياة أفضل.
قد يكون ذاك من استحالة قول المثاليات وأمنيات ظلت شاردة، طريدة، ملاحقة عبر قرون وقرون حتى تحط في مقابر أبدية، أو مجرّد جزء من أحلام أفلاطون وهو يخطط مدينته الفاضلة، علما إنّ سقراط الذي لم تحترمه زوجته يوما بحياته، كما جاء في بطون التاريخ لانشغاله بالفلسفة- هنا المقصود هم الناس والدنيا والآخرة- على حساب زوجته وبطون عياله، بكت كثيرا حينما رأته مقيدا والأغلال في يديه، في آخر اطلاله له عليها وعلى عالم ظل يهام به رغم ازدرائه بكل ما فيه، كعادته، طال صبره عليها حتى في النحيب الأخير، إذ كانت كل دهرها تعاكسه وتشاكسه وتحيل جماليات تفكيره الى تعكير، وتعده حقا حياتيا ويعدها من توافه فرضت عليه، قال لها مبتسما: اصبري فإن القانون سور الوطن وإن كان ظالما.
ربما كان ذاك القانون وضعيا ومفصلا وفقا لمقاسات ومذاقات إنسانية معينة، طلب الفيلسوف احترامها وإن تعدّت على حقوق معينة، فكيف بقانون الله الذي خلق سماواته وأرضه من أجل ذاك الكائن العظيم الذي يسمى بالجرم الصغير، علما إنّ العالم قد انطوى فيه، إذ لا يمكن للبشرية أن تتخلص من عذاباتها إلّا عبر فك شفرة أسراره التي لا تفك بعيدا عن تعليمات سماء يترى رذاذ رحمتها بلا انقطاع بصبر الله على عباده ومخلوقاته، وهي تصارع المنايا وتتحدى الصعاب وتستمد العزم أحيانا من فسحة الأمل التي لا تخيب ولا تخاب.
ما هي الشهادة في ظل اصطلاح ومعنى تعددت معانيه واستخداماته وإن أراد بعضهم تشويه صوره تحت تاريخ طويل كانت صوره على طول الخط تضغط من كل الجوانب كي تجانب الحق وتركن لما يحب ويريد جناب الحاكم بمسمياته وعنواناته المختلفة، التي حفظنا بعضها (محفوظ، وحفظه الله، حتى أدعياء الولاء للوطن ولله).
يقول أهل اللغة: إنّ الشهادة، اصطلاحا: هي دعم القول بما يثبته. 
أمّا الاستشهاد، فهو توكيد ذلك القول بما يشهده الآخرون. قد يخرج المعنى أو يضم قليلا أو بعيداً أو كل حسب وجهة نظره، وربما المترامية والمتناغمة مع رأي سياسي أو مذهبي أو ديني ما. لكن مهما بلغ وشطح مسبر التدليس والتزوير والترغيم، سوف لن يفهم من الاستشهاد إلّا المعنى القدسي الأعم في تضحية الذات المقدسة من أجل سلامة الإنسان ذاك الكائن المكرم من الله الذي صبغه وفضله على جميع مخلوقاته، فكل من ذاد عن دينه وعرضه ووطنه وماله هو شهيد.
مع أن الدم سيّال في الوديان والجبال والهضاب، يرتع في الحقول، يمتزج مع موج البحر والنهر، يداعب قمم الجبال، وينزل يضيء الوديان، إلّا أنّ الأوطان ظلت مقيدة يعبث فيها الطغاة واللصوص والفاسدون والعتاة رغم مواكب الشهداء القديسين التي نشيعها حينا بعد حين! هنا لا يأس مع الحياة، وفسحة الأمل يجب أن تبقى تشع في عقول وقلوب شبابنا ورجالنا ونسائنا وهم يعضون الجراح ويتسامون على المواجع. الحال في واقع بقائه أصبح من المحال. عليهم أن يكروا نحو الواقع يغيروه بوقائع أفضل، فمصابيح الشهادة لا يمكن أن تنطفئ، وجداول الدم تخطوا على خط مستقيم لم يتعرج ولم ينحنِ في طريقه نحو الله في عليين إذ لا بدّ لليل أنْ ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر ولو كره المنافقون. هنا علّة الاستشهاد، ومكانة الشهادة في قلوب أمّة ما زالت تحبو على طريق الحق، وإن ترامت ترعاته وملاذاته وأمانيه. 
"ما مضى دهرٌ و كانـا
ذِكْرُكَ الفـوّاحُ يبقـى
ما حيينـا فـي دِمانـا
أنـت بـدرٌ سـاطـعٌ
ما غابَ يوماً عن سمانا"