جدلية أخرى بشأن {صفقة القرن}

بانوراما 2020/02/24
...

بيتر ايساكسون*   
ترجمة: مي اسماعيل 
يُخبرنا التاريخ أن السلام الذي ثمنه الإذلال لا يأتي أبداً بخير؛ خاصة الخير المتوقع عن طريق رعاة التطوير العقاري الذين يضعون أنفسهم بدور الدبلوماسيين. كتب “غاري غرابو” (دبلوماسي أميركي سابق) قبل بضعة أسابيع مدافعا عن “صفقة القرن” التي قدمتها ادارة دونالد ترامب، (وهي صفقة يرى كثيرون أن الاشارة إليها بصيغة “خطة سلام” أمر سيء). بدأ غرابو حديثه بالاعتراف أن مما لا لبس فيه أنها “خطة اسرائيلية”. لكن جدليته تعكس، مع ذلك، رسالة ترامب الواضحة التي حذّر فيها من “أن هذه قد تكون الفرصة الاخيرة المتاحة لهم”. 
وتعكس أيضا توكيدات السفير الاميركي الى اسرائيل “ديفيد فريدمان” أن شروط الخطة غير قابلة للنقاش: “لن يحصلوا على أي شيء آخر بإقامة يوم للغضب..”. 
 
مصطلحات ملتوية المعاني
لا ريب أن غرابو (سفير أميركا السابق الى سلطنة عُمان) محق بالاعتقاد أن الاسرائيليين بمفردهم لن يمنحوا الفلسطينيين أبدا شيئا أفضل من خطة ترامب وجاريد كوشنر (صهر ترامب ومستشاره) هذه؛ ولكن هل من المعقول بالنسبة للولايات المتحدة (بدورها كوسيط أمين) أن تصطف ببساطة مع ما ترغب اسرائيل بتقديمه ((للفلسطينيين))؟ قال غرابو، في إشارة الى أحد أكثر المواضيع حساسية- “حق العودة للفلسطينيين” (الذي تجاهله مؤلفو الصفقة على نحو قاطع): “لطالما أبقت القيادة الفلسطينية على هذا الوعد الفارغ للاجئين الفلسطينيين في الشتات كنوع من قطرات تسد الرمق؛ لكنه أمر لن يتحقق، وكل شخص مطلع على الأمر يعرف ذلك”.. ثم يضيف هذا التأكيد المنحرف: “لم تقم خطة ترامب سوى بتدوين هذا الأمر” codify)- تدوين الأمر وتنظيمه بنقاط واضحة. المترجمة).  
يقدم كاتب المقال هنا تعريفه لتلك المصطلحات: 
codify: تحويل أنماط السلوك الحالية (حتى الانتهاكات الوقحة وغير المصرح بها للمبادئ المعترف بها عالمياً) إلى قانون، باستخدام التخويف أو القوة الساحقة عندما تكون هناك سلطة للقيام بذلك؛ حتى عندما يفتقر الامر بوضوح لأي سلطة أخلاقية. 
وفي ذات السياق يمكن القول أن “codify” تعني حرفيا وببساطة- التوصل إلى تعريف رسمي مدوّن ومعترف به قانونا للتعامل مع قضية أو علاقة. اتخذ غرابو طريقا مختصرا حينما ساوى بين القانون المدون وبين خطة أحادية الجانب تماما لم تجرِ مناقشها علنيا مع الأطراف المعنية 
أبدًا. 
ولعله كان من الأجدر استخدام المصطلح الذي يستخدم عند برمجة الحاسوب: “التشفير- coded” بدلا من “codify”؛ إذ أن كوشنر وترامب وفريدمان حاولوا فعليا كتابة نظام ادارة جديد للشرق الاوسط. لكن ما لم يقوموا به (وهو أمر يلتزم به أي موزع مهني لبرمجيات الحاسوب قبل اطلاقها علنيا) هي محاولة تنقيتها من العيوب. ففي جملة “لم تقم خطة ترامب سوى بتدوين هذا الأمر”.. وكلمة “الأمر” هنا تشير لرفض الاسرائيليين حتى مجرد النظر في حق العودة؛ رغم أن اسرائيل كدولة قامت على حق اليهود بالعودة الى أرض لم يعيشوا هم ولا أغلب أجدادهم فيها اطلاقا. هذا “التدوين” لا يفتقر للدقة فحسب؛ بل أن اضافة كلمة “سوى” يجعله مريبا بشكل مضاعف.. لا شيئ يستهان به باستخدام مصطلح مثل “سوى” فيما يتعلق بنتائج الخطة؛ ففي السياسة يجب أن يجري الحذر دائما من التوكيدات التي تروق لفكرة “سوى”. فهذا المصطلح يسمح بإنكار متخفٍ لما هو واضح؛ وهو أمرٌ أكثر أهمية ويستحق التأمل أكثر مما يريد المتحدث أو الكاتب أن نصدقه.
 
كذبة فقدان الثقة
وما الذي يجب أن نعتقده عن توكيد آخر يفترضُ أمرا لم يكن (وبوضوح) يوما حقيقيا؟ كتب غرابو قائلا: “حينما أطلق الفلسطينيون، بتهوّر، الانتفاضة الثانية فقدوا ثقة الشعب الاسرائيلي”؛ فهل يمكن له أو لأي شخص آخر الاستشهاد بفترة زمنية (أو حتى دقيقة) نال فيها الفلسطينيون ثقة الاسرائيليين؟ لقد حاز العبيد في الجنوب الأميركي وحقبة التمييز العنصري بجنوب أفريقيا ثقة أسيادهم طالما نفذوا الأوامر وقبلوا بمصيرهم، وهكذا كان الحال في اسرائيل حتى قيام الانتفاضة الاولى أواخر العام 1987؛ فهل هذا هو نوع الثقة الذي دار بخلد غرابو؟ 
بالطبع كان غرابو محقا عند نقطة أساسية واحدة. فالتاريخ، كما يتحقق في العالم الحقيقي، لم يكن أبدا بناءً أخلاقيا. انه مبنيٌ على سلسلة طويلة من الوقائع المُنجزة “faits accomplis”.. وهذا الأخير تعبير يثير الحرج في العالم؛ ففرض ارادة أحد الأطراف جبريا بينما يكون المتوقع من الضحية أن تعتبره أمرا اعتياديا وأن تتكيف معه قد يكون شيئا مخجلا؛ لكن يمكن أن يتحقق غالبا. وقد ينتهك احساس الجميع بالـفضائل الأخلاقية؛ خاصة ضمن أنظمة سياسية تدعي الديمقراطية. 
لكن الواقعية التاريخية تمحورت دائما حول مصطلح فرنسي آخر يصعب ترجمته بواقعية: “rapport de force”. تنحو الترجمات الرسمية للإتفاق على “توازن القوى”؛ لكن أي ناطق بالفرنسية سيقول أن المصطلح يدل على “عدم التوازن بالقوى” أو حتى “العرض العدائي للقوة”؛ واصفا كيف يمكن أن تُدار الأمور لصالح جهة ما وعلى غير صالح للأخرى. فإذا اعترف القادة والدبلوماسيون أن موقفهم لا يتعلق بالأخلاق إلا قليلا، وإنما يرتبط بشكل وثيق بكل ما له ميزة تنافسية؛ فحينها حتى وسائل الاعلام قد تبدأ بترجمة الاحداث بصدق أكثر مما تفعله 
اليوم. 
 
لمحة تاريخية
أدرج غرابو ضمن مقالته قائمة سريعة بالمحاولات الفاشلة (التي باتت اليوم تعتبر خيالية؛ إذ لم يجرِ تدوينها قانونيا قط!) لدفع حل الدولتين قدما؛ منذ سنة 1947 حتى الآن. وقادته سلسلة الفشل الى الاستنتاج بالقول: “لكن هذا هو الواقع؛ ولا يوجد سوى القليل ليجري التفاوض عليه الآن”. ويشرح بأن الفلسطينيين لم يعودوا يتمتعون بدعم أغلب الدول العربية المؤثرة، وبعزلتهم تلك لم يعد لهم خيار سوى الاستسلام”. 
ثم يضيف حجة اخرى لصالح منهج القبول الوهمي للوضع الراهن، قائلا: “علاوة على ذلك فان اسرائيل هي القوة الإقليمية الآن، التي تمثل موازنة موثوقة للتهديد الحقيقي- إيران”. 
كما يقول الكاتب والصحفي الفلسطيني “رمزي بارود” واصفا الموقف ذاته: “ تخلى بعض العرب تماما عن فلسطين واتجهوا صوب اسرائيل، ليدفعوا تهديدا ايرانيا وهميا”.. اذا كيف هو الحال؛ وهل التهديد كان”حقيقيا” أم “وهميا”؟ 
في زمن “الحرب الدولية ضد الارهاب” التي تحركت بعد عقد من انتهاء الحرب الباردة؛ رفع السياسيون في ديمقراطياتنا مستويات جنون الشك السياسي إلى حد تبين أنه (محليا على الأقل) استراتيجية انتخابية فعالة. يمكن لاستراتيجية التعرف على التهديدات وتحذير الشعب منها أن تحرك مشاعر الناخبين؛ الذين ينتهي بهم المطاف لإعتبار سياسات التصرف العدائي ضد الشعوب الاخرى أمرا لا غنى عنه لضمان حمايتهم والدفاع عنهم. 
كما أصبحت محاولة فهم التهديدات ومتى تكون واقعية أو خيالية نوعا من الفن المفقود؛ جرى نفيه من الجدليات العمومية؛ طالما أن لوسائل الإعلام ذاتها كل المصلحة في تضخيم أهميتها. أصبح ضمن عقيدة الولايات المتحدة أن تعتبر ايران (مثل روسيا، ولكن لأسباب مختلفة تماما) تهديدا مطلقا، وعانى عالم الاعمال من تلك الرؤية؛ إذ هدد ترامب المصالح الاقتصادية حول العالم بفرض العقوبات اذا تعاملت مع ايران. لكن الاستطلاعات الدولية الاخيرة أظهرت أن غالبية الشعوب باتت ترى أن الولايات المتحدة هي التهديد العالمي الاكبر للسلام. 
يقول محللون ومسؤولون أميركان سابقون أن الولايات المتحدة ترى نفسها امبراطورية عالمية تمتلك الحق بتهديد ومعاقبة كل من تختار (حتى ولو عند طرف العالم الآخر) للتقاعس عن الانصياع لرغباتها، ومن ثم، فما الذي يعنيه توكيدها على ان اسرائيل الصغيرة هي “القوة الإقليمية” (تلميحا الى انها “القوة الإقليمية الوحيدة”)؟
يبدو أن غرابو يقترح أن القوة العسكرية الاسرائيلية، مدعومة بالطبع وكما يعرف الجميع بالولايات المتحدة؛ تمنحها نوعا من السلطة الطبيعية على المنطقة. وهي تلك الملاحظة نفسها التي كانت ستنطبق على ألمانيا سنة 1939 وبالدقة نفسها؛ ما عدا اختلاف الحجم بين الدولتين؛ ولكن هل يبرر هذا النفوذ العسكري تدوين الوضع الراهن ورفع النظام العدواني المهيمن إلى منزلة القوة الإقليمية الفريدة؟ 
تعرض المقالة مبدأ آخر يتطلب المزيد من التمحيص؛ إذ يقال لنا أن..”اسرائيل ثقل موثوق مقابل التهديد الايراني”؛ فما الذي تعنيه فكرتا “التوازن” والتوازن المقابل”؟ ينحو استخدام هذين المصطلحين (كما هو الحال مع “توازن القوى”) الى وصف أوضاع متأزمة بشكل دائم، أو حالات الصراع والقلاقل وانعدام الامن. وتكون منطقية ضمن السياقات التي عادة ما يُنظر فيها إلى التوازن (عندما يحدث) على أنه محفوف بالمخاطر وسريع الزوال. فهل من العدل بالنسبة للشعب المعني أن يجري تطبيق هذا النوع من مقاربات نظرية اللعبة الجيوسياسية على أمر يتعلق بوجودهم وهويتهم وبقائهم؟ هذا ما تفعله الامبراطوريات؛ ولكن هل هو أمر مناسب لأمة تحتفي بالديمقراطية؟ هذا النوع من التحليل يوحي بقبول متبجح بموقف تتعرض فيه المبادرات أو مطالب العدالة والمساواة للمعارضة بشكل منهجي بصفتها عوامل قد تؤدي في نهاية المطاف إلى “الإخلال بالتوازن”. 
 
غضب فلسطيني مكبوت
بالاصرار على أن هذه هي الفرصة الحقيقية للفلسطينيين لنيل هدفهم الأساس بالاستقلال؛ اختار غرابو أيضا تجاهل ما لاحظه معظم المراقبين الحصيفين وعبّر عنه أحدهم على الأقل؛ “أكيفا إيلدار” (الكاتب والصحفي في موقع  “ألمونيتور”- تحت عنوان “نبض إسرائيل”) حينما قال: “ساهم اصدقاء نتنياهو وداعمو اسرائيل في ادارة ترامب (على رأسهم السفير الاميركي لإسرائيل ديفيد فريدمان ومستشار البيت الابيض كوشنر) بزرع العديد من الالغام بين صفحات “الخطة” ليضمنوا أن لا شيء سيغري الفلسطينيين حتى بمناقشتها”. فاذا كان مؤلفوها قد صمموها لكي يتم رفضها؛ فهل هناك أي معنى لجدلية أن الفلسطينيين سيكونون حكماء لقبولها؟” 
يُرشد غرابو (بعد فريدمان وكوشنر) الفلسطينيين قائلا: “ولكن حان الوقت لأن نكون واقعيين”.. وهو ما يعلق عليه أيلدار بواقعية أكبر قائلا: “اذا شعرت السلطة الفلسطينية بالاغراء لقبول الخطة؛ فسيقود ذلك الى حرب أهلية فلسطينية”. والمفارقة أن غرابو وإيلدار كلاهما محق بالاحساس أننا نشهد نوعا من النمط المتوقع في التاريخ الحديث؛ سواء في العراق أو أفغانستان أو ليبيا أو الصومال أو دول اخرى تدخلت فيها الولايات المتحدة لتفرض ما تعتبره واشنطن حلا “واقعيا” مصمما لتغيير “توازنات القوى”، ونتج عنه الفوضى وحرب داخلية لا تنتهي. والآن عرفنا أن السلطة الفلسطينية لم ترفض خطة كوشنر بشكل قاطع فحسب؛ بل أن الجامعة العربية قررت..”عدم التعاون مع الادارة الاميركية لتطبيق الخطة”. وكما هو الحال عند كل مبادرة أميركية تجاه الشرق الاوسط خلال العقدين الماضيين؛ تبدو العبثية والفشل الذي لا مفر منه مكتوبتين ضمن السطور. 
اليوم يبدو القبول بالأمر الواقع (كما يقترح غرابو) لأجل السلام والازدهار أمرا غير وارد، وليس من المحتمل ان يتمكن حتى التواطؤ المهتم بالمصلحة الذاتية لنظامي المملكة السعودية ومصر بأن يحدث فرقًا. يبدو أن “الغضب المكبوت” الذي تنبأ به محللون كثيرون ومنهم “أكيفا إيلدار” سيكون النتيجة الأكثر توقعا للخطة المرفوضة؛ لكن أحدا لن يمكنه توقع مدى كبت ذلك الغضب والى أي حد ستبلغ شدته.. 
 
موقع {فير أوبزرفر}: صحيفة دولية مقرها واشنطن، مع مكاتب بسان فرانسيسكو وبرلين. تأسست سنة 2011                                                                
بيتر إيساكسون: مؤلف ومنتج إعلامي وكبير مسؤولي الرؤية بأكاديمية 
{فير أوبزرفر} للتدريب