الذهاب إلى الحلول الأمنية لم يعد واقعياً، ولا مسوغاً، إذ لا مسوغات عقلانية له، ليس دفعا لشرور الحروب الباردة أوِ الساخنة، بل لأن العالم بات أكثر حاجة للسلام والتواصل والحوار، ولتجاوز عقدة العصاب الأميركية التي لا ترى العالم الا بوصفه معسكراً جاهزا للحرب.
ما تمخض في "مؤتمر ميونخ للأمن" الذي عُقد مؤخرا، يكشف عن كثير من تلك المعطيات، وعن علاقة العالم بالأمن، وبالصراعات، وبالحروب التي تهدد أمن الدول، وحتى بنزوع بعضها للبحث عن ترسانات حربية تقليدية أو باليستية أو نووية، وبما يجعلها أكثر خطورة وتهديدا للسلم في العالم، وأكثر وهماً في الدفاع عن
نفسها.
هذا المؤتمر كشف، كذلك، عن القلق والخوف، وعن أوهام صناعة الأمن، لا سيّما في ما يتعلق بـ "شيطنة" بعض الدول، ودفعها للبحث عن تحالفات مسلحة، أو حلول أكثر ميلاً للتسلّح، وهذا ما يجعل فكرة الحرب قائمة ومُهدّدة، وباعثة على إنتاج أزمات من الصعب السيطرة على إيقاعها، حتى بات الغرب، وسط هذه الأزمات، مدفوعا إلى معالجات تبدو في ظاهرها غير واقعية، لكنها في الباطن تتماهى مع الرغبة الأميركية التي تسعى إلى فرض حروب باردة مع دول عديدة، بدءاً من روسيا والصين وانتهاء بإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا، وهذا ما يعني البحث عن المزيد من الحلول الأمنية، ومن صناعة الخنادق والمنصات الإعلامية، التى لا شأن لها سوى تسويغ تلك الحروب، والدفع باتجاه تحويلها إلى ساحات مفتوحة لصراعات ثقافية وإعلامية وتجارية لها أهدافها ونواياها وستراتيجياتها.
الجيل الجديد من القادة الأوروبيين قد لا يميل إلى فرضيات الأمن الأميركية، ولا بسردياتها القديمة عن تلك الحروب الباردة والساخنة، لا سيّما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتعرّض الاجتماع الأوروبي إلى هزات كبيرة بسبب أوضاع المهاجرين، وبسبب طبيعة تعقّد التهديدات التي تواجه الهوية الأوروبية، التي تفترض وجود معالجات ثقافية أكثر ممّا هي
أمنية.
وأحسب أنّ فشل سياسات "اندماج" المهاجرين وضعف برامج الدعم، من أكثر الأسباب مدعاة للغلو في الحلول الأمنية، والتفكير بـ "صناعة العدو" والعمل على إخضاعه إلى مواصفات أميركية عن الدول المارقة والخارجة عن الطوع الأميركي.
الرثاثة الأمنية وضعف
حلف الناتو
لا يمكن فصل الرثاثة الأمنية التي يعيشها الغرب عن طبيعة التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية التى حدثت بعد انتهاء "الحرب الباردة" ووضعت كثير من الدول أمام الخانق الأميركي العسكري وحلوله المركزية، وأكثر تمظهرات تلك الرثاثة هو ما تعرّض له حلف الناتو، بوصفه العلامة المركزية على قوة التحالف الأوروبي الأميركي، وعلى ضخامة الترسانة الأميركية في أووربا.
هذا الحلف بدأ يعاني من مظاهر الترهل والضعف، حتى وأن دخلت إليه دول جديدة هاربة من العالم السوفيتي القديم، إذ باتت مظاهر التمرد واضحة، والبحث عن حلول داخلية للأزمات هو الخيار الواقعي، فضلا عن عدم قبول قادته بالأفكار الأميركية التي تسعى لجعله أداة من أدواتها الأمنية، والتي وجدت نفسها قريبة من التورط بحروب الشرق الأوسط ذات الملامح الأمنية والميثولوجية وحتى العرقية، فتركيا، العضو الكبير في الحلف الأطلسي، تقف على شفا حرب مع سوريا، ومع روسيا، وتحتاج إلى قوة الأطلسي لإسنادها، ولتسويغ حربها وتدخلها في الشمال السوري، وفي إسناد جماعات مسلحة تم تصنيفها ضمن الجماعات
الإرهابية.
قد يكون ما يجري في مدينة إدلب السورية نوعا من الاختبار الذي يكشف عن مدى قدرة الحلف على التماسك، وعلى إسناد تركيا في خياراتها الأمنية، وفي تحويل المواجهة مع روسيا إلى نوع من الحرب الدفاعية عن هوية الحلف وعن حدوده العسكرية، وعن رهانات دوله التي لم تجد في هذا الحلف سوى عودة ميثولوجية إلى سرديات حرب طواحين الهواء التي غامر بها "الدون كيخونه" في رواية سرفانتس
الشهيرة.