جائزة الإبداع.. كهانة بحث في ما بعد الوجود
ثقافة
2020/02/29
+A
-A
اسماعيل ابراهيم عبد
قصص غيمة عطر لـ (جائزة الابداع) قد بدأها حميد الربيعي بإشارات تتصدر حزمة من المرافقات، كأفكار جانبية، أو افكار ناضجة محذرة، أو أكاذيب من نوع خاص، أو أصوات مرادفة لفعل الحكي. قد يتخلف عرض الأفعال عن فحوى إشاراتها فلا تظهر الشفرات بسهولة، إذ تأخذ لنفسها مظهراً مخادعاً يرقى الى مستوى الرمز.
تبدأ قصص (غيمة عطر) لحميد الربيعي(*) كهانتها بالبحث عن ما بعد الوجود ـ تجرب حزمة من التقنيات تكاد لاتستوعبها المقالة اجرائيا لذا سننوه لبعضها. لنتابعها اجرائيا:
أولاً: غيمة الرؤى، إنني أعدها القصص كلها رؤى قص بحق لأسباب كثيرة، منها :
ـ تقمص لغة الإيماء الاشاري لخلق حالة معاني ما بعد الاشارة، وتطورها لتكون لغة تداول ايمائية احيانا: [حفر اسمه على صندوق الخشب، حالما تصدعت أركانه، قبل أعوام ولم تعد تستهويه عملية الرتق التي مارسها مرارا] ـ ص9.
ـ لغة الحكي تمزج بين فلسفة العلم والتاريخ، وتبطنهما بمقاربات حدثية لاحقة: [لقد اعتاد رؤية الابن يهلل فرحا، حالما يبصر المعري قادما، لان مشوارا من العجائب سيدخل يومه، ذاك ان الرجل العجوز، اثناء سيرهما متباعدين، يبدأ بقص الحكايات]ـ ص10. ـ تتصل لغة السرد بلغة التراث على هيأة شخوص وتواريخ وبشر اشهاد لبلاد الجمال والحياة. هو سبهان بن الأكثم، الذي كان يشتغل صباغا لواجهة المحلات... اقتنع بأن العبيد والمخصيين كانوا امرا شائعا... كان الاقرب الى عقله .. المتوكل]ـ ص19. ـ ممارسة طقس خاص بالتمدد والتهشيم للأحداث والتواريخ والحكايات وهذه اعقد تقنيات القصص، بحسب ما نرى :[جدي كان عازفا للمتوكل... فكر...ان يجلس في المقهى... يروي حقيقة كيف امتهن اجداده الغناء، عبر تطوير ايقاعات ـ المقام ـ التي كان الجد الاكبر يؤديها لإسكات غضب المتوكل] ـ ص22.
ـ تميل اللغة نحو توجيه دلالاتها نحو رواشح نفيسة، ثم تدجن المستحيل كونه من يصنع التراث المستحدث للكثير مما يشيع شعبياً: [البنت شمعة تتعرّى رغم البرد... تفوح برائحة العشب... كان أيوب يمر كل يوم من امام مغزل بابها، في شارع حسن باشا الجديد... ايوب كان يعتقد ان صورته لم تكتمل، حين طلب من “ابن النديم” إخراجه من كتاب الفهرست] ـ ص27.
ـ الابطال كلهم هلام لشخوص، ليسوا من الارض وليسوا من السماء، انما هم خليط أرضي سماوي، يحل الحياة بدلا من الموت، والعكس احيانا، وهم جميعا الراوي البطل المدون. مثالهم (صبي المعري، محمد بن شرهان، سبهان ابن الاكثم، أيوب، فتى الامانة، فتاة الامانة.. الخ).
ثانياً: صور نادرة للحكاء، الصورالسردية الذهنية لها مثيراتها المتخيلة التي تتجه بالتفكير نحو تنظيم علاقات صور الجمل الواصفة لكمٍ هائلِ من الأحداث الدالة على الرغبات غير المكتملة والمشاعر الناقصة فضلاً عن خلق صورٍ تملأ الجمال بما لايُفهم.. يروي فتى الامانة قائلا: [قيل لي بان جدار العمارة تفتق عن فتاة... انحنت تجلب الفرشاة... تمرر فرشاة طويلة فوق القماش الابيض، يدها الاخرى تمتد فأغرف شيئا من المطر النازل، تبلل جيدها... تطلق رويدا الجسد من قيده، لايلسعها البرد ولاقطرات المطر... كانت تنظر الى حياء الاخرين فيما لو تعرت وسط الشرفة في الطابق الثالث... تخلت كليا عما يثقل جسدها لتقف عارية امام لوحتها... الملامح والانحناءات شكلت لوحة مكونة من فتاة عارية تغتسل بالمطر] ـ ص35.
يؤكد المقطع اعلاه جملة صور نادرة للحكاء، أهمها:
1ـ جمل المقطع تمنتج صوراً ذهنية وبصرية معاً لمتخيل لوحة ترسمها الفتاة لنفسها، تفضي بنورها الانثوي على لوحتها ثم على فتى الامانة، الراوي يرى، ثم يحس بروح واوجاع ظلال اللوحة كونها عن العري العلني الذي يشبه أبعد المستحيلات عندنا.
2ـ يُمْنَحُ المستحيلُ درجةَ الوجود الحقيقي عبر لغة الراوي التي بها يوحّد بين الأجساد والأرواح.
3ـ منتجة الصور المستحيلة تؤالف بين المنسجم (الأجساد) والمتنافر (اللوحة)، وكلاهما خاضع لسلطة غير مرئية اسمها الراوي البطل (المصنوع المتخيل النادر) عبر التدوين الكتابي للمقطع
السابق.
4ـ الفعل الحركي للبطلة واللوحة مخلوق ذهالي من صنعه الكاتب المبهور بمعنى الانثى لا مجسم المرأة.
5ـ المقطع أعلاه ينتج قراءته الخاصة عبر الغرابة والطرافة والوضوح والتحرك من الثابت (المكان) الى المتغير (الزمان)، صعودا الى مثال الـ (اللحظة قراءة عراقية حرجة للذة المشتهاة (انجيليا جولي)، والثقافة الهجينة (محل القرطاسية)، والمخاتلة الحدثية (الصراع الحدثي بين الراوي
والاخوة).
ثالثاً: لغة الوصف المعقدة هي اللغة السردية التي تحاول جعل مكونات اللغة (الأحرف والكلمات) مؤنسنات، كائنات حيّة لها ذات الحضور الحي المادي المتفاعل مع قوى النطق بحسية المادي الملموس، نرى ان مثل هذا الاتجاه سيكون فرادة مستقبلية في تعامل (اللغوي) مع (الجسداني) باتساق دلالي مُجِيد؛ لذا وصفناه بالمعقد ومن مهامه الأساسية تعدده الدلالي ان يحقق المتعة المنفلتة من قوانين البلاغة التقليدية باتجاه التقاليد البلاغية الجديدة للسرد.
دليلنا المقطع الاتي الذي يجعل الحروف موجودات غير مرئية لكنها تحرك كل شيء: فتاة الامانة تتذكر حروف كلمات العجوز: [أنى تذهبي يتضوعْ شذاك!... تنشر شذى عطرها... تتركه غيمة... تملأ به المكان... يتجول الفتى خلف روائح قديمة، كانت قد بثتها سابقا .
ـ الحروف ذوات أنى تكون.. وجدت العبارة معلقة على جذر نخلة مقطوعة السعف، ظنتها رسالة من رجل... ينشر حروفه... سمعت... أن الرجال يباركون شطارة فتى يجعل الحروف ذواتاً... ثمة كهل علق..: ذوات تشبه شذى عطر] ـ ص44.
المقطع يصلح للافتراضات السابقة كلها كونه يجمع المتخيل الى المجسد دونما بلاغة فائضة، وبلا مجسد حقيقي انما المقطع كله وصف، فيه من التعقيد بقدر ما فيه من جلال المعنى وسمو الدلالة الذي يضمر الوجود النصي المحقق للمتعة المنفلتة من عقلانية الشروط الى عمق الفطرة الخلاقة للتلقي.
رابعاً: ضلالة ان القراءة السريعة لقصص غيمة عطر ضلالة كبيرة تجر صاحبها نحو التوزع الى افكار قريبة وبعيدة عن توقعات الكاتب والقراء الآخرين. ومن افكار هذه الضلالة:
1ـ العطر والمطر هما الغطاءان الخلفيان لبيئة الخطاب للقصص كلها.
2ـ القصص كلها أغنية وجدت لمتعة الراوي فهو الاشخاص جميعهم وهو صانع الروي والحدث والتدوين، وصائغ الاوجاع العامة والفردية.
3ـ النساء كلهن طبيعة انثى من ورق وصور، لا أجساد لهن.
4ـ انا السارد لن تفلت من محيط الرائي السياسي والفني التراثي.
5ـ البطل متعاظم الى حد انه ينمو مع نمو السرد فهو طفل صغير يصبغ الاحذية ثم يكبر عمره ليصير صبي المعري، ثم يكبر ليصير فتى الامانة، ثم يكبر ليصير الباحث عن معنى الوجود البعدي عبر الانثى، ثم يستحصل على المعرفة الاخيرة..
الفناء.
6ـ قبل المعرفة الاخيرة يكشف العارف عن لغز العبودية.
7ـ للعارف وحده حق الجمع بين المختلف والمؤتلف.
8ـ العارف، قبل نفاده، أوصل القارئ الى ان الغيم والعطر ما هما الا تفريعات عن الوجود المتعاظم لمتوالية نمو الفتى الحكاء.
9ـ غيمة عطر كون فني تماماً، يمكننا عدَّه قصا معرفيا تجريديا. 10ـ تلك النتائج قد لا تكون فائض قراءة عجولة .
(*) غيمة عطر، مجموعة قصص حميد الربيعي، فائزة بجائزة الابداع العراقي للعام 2019، دار نينوى، سوريا،2019.