أرمينيا ما قبل الإبادة.. تأريخ يختبئ في إرث أسرها

بانوراما 2020/03/01
...

نيت بيرج
ترجمة: ليندا أدور
كشف منديل بلون أبيض وازرق مربوط بإحكام، عند فتحه، عن حفنة قليلة من التراب تعود الى زمن بعيد جدا، عندما كان جندي يسارع الى لملمة ما يمكنه حمله من مقتنيات، ليفر على متن قارب بجزيرة جاليبولي، كي يأخذه وغيره من الأرمن بعيدا عن الإمبراطورية العثمانية وحملة الإبادة الجماعية التي كانت تشن ضدهم وضد غيرهم من الأقليات العرقية. قبل أن يغادر، جثى على ركبتيه وسط حديقة منزله وغرف حفنة من التراب ووضعها في جيبه، كانت بالنسبة له كقطعة حقيقية من وطنه الذي لم يعد إليه أبدا !
حدث ذلك قبل نحو قرن من الزمن، ومنذ ذلك الحين، توارثت المنديل ثلاثة أجيال، فقد كان واحدا من بين بضع مئات من الأشياء التي جلبها معهم أفراد الشتات من الأرمن الى اليونان، ليضاف الى ما كان، حتى وقت قريب، مقتصرا على السجلات التأريخية للأرمن الذين عاشوا تحت ظل الامبراطورية العثمانية قبل وأثناء الإبادة، التي وقعت أحداثها بين الأعوام 1915 و1923، وأدت الى مقتل ما لا يقل عن مليون ونصف مليون أرمني وشتت الكثير الى مواطن بديلة مختارة  حول العالم، بدءا من لبنان الى سوريا وفرنسا والولايات المتحدة. لكن تركيا تقول ان أعداد الوفيات كانت أقل بكثير، واصفة أحداث العنف التي وقعت بالحرب الأهلية، وليست
إبادة!
 
هوشاماديان
كأقلية عرقية مسيحية، عايش الأرمن إبان الأمبراطورية العثمانية، المسلمين الأتراك والأكراد، لكنهم تمركزوا، وبشكل رئيس، في مناطق تقع اليوم شرقي تركيا وغربي أرمينيا. بالرغم من أن العديد من السجلات والأحداث التأريخية توثق أحداث الامبراطورية حتى نهاية القرن، إلا أن القلة القليلة فقط تم سردها على لسان الأرمن او من خلال رؤيتهم لها. بالنسبة للزوجين فاهي تاشجيان وإلك هارتمان، الباحثين في الامبراطورية العثمانية ومقرهم برلين، فإن تلك تعد مشكلة.
يقول تاشجيان: "أن المصادر الأرمنية موجودة بالطبع وهي غنية جدا"، لكنها على خلاف المواد الرسمية والتاريخية، فان قصص الكثير من الأرمن الذين عاشوا تحت ظل الامبراطورية العثمانية، إما تعرضت للتدمير وسط فوضى الترحيل أو المذابح التي حدثت، أو لم يتم تدوينها بصورة صحيحة، في المقام الأول. وما تبقى، فلا يعدو كونه علامات تأريخية غير مقصودة مرت عبر الاجيال، وروايات دوّنها سكان القرى المحليون، أو صورا أرسلت الى أفراد الأسر في الخارج، أو مطرزات على ملابس، وربما حفنة من تراب ضمها منديل. 
عن المشروع الذي بدأ في العام 2010، يقول تاشجيان، "كنا نهدف لمنح قيمة أخرى لتلك المصادر"، بعد عمليات بحث بين المكتبات والمواد الأرشيفية لمصادر محدودة باللغة الأرمنية، عثر تاشيجان وهارتمان على مجموعة من المواد لما كان يطلق عليه "هوشاماديان"، وهو مجموعة من المذكرات المدونة بخط اليد ومنشورة ذاتيا تصف، أحيانا ببساطة، وأخرى بالتفصيل، القرى وأرض الأجداد، إذ أجبر الأرمن على الفرار منها. 
وقد بدأ الزوجان، في العام 2011، نشر المعلومات عن تلك الوثائق بموقعهم الخاص على شبكة الانترنت والذي أطلقا عليه اسم  "هوشاماديان". ومع إطلاق الموقع، بدؤوا بتسلم العديد من رسائل البريد الاكتروني من مختلف أنحاء العالم، مرسلة من قبل أحفاد أرمن، يعرضون فيها المشاركة بما يحتفظون به من سجلات. أصاب تاشيجيان وهارتمان، اللذين يمتلكان إرثا أرمينيا، الدهشة من حجم التدفق الهائل للمصادر، ما اضطرهم لإعادة توجيه تركيزهم من الأرشيف الرسمي الى موروثات الشتات الأرمني. يقول تاشيجيان: "هناك الكثير من الكنوز داخل منازل الأسر، وخزائنها". 
 
موروثات وذكريات
بهدف توثيق كل هذه المواد والتأريخ المدون الذي حصلوا عليه، بدأ الزوجان، بمعية فريق صغير من المشاركين غير الأساسيين، بتنظيم ورش عمل في جميع أنحاء العالم إذ يمكن للأشخاص جلب موروثات أسرهم والوثائق لتضاف الى المجموعة. عقدت العديد من الورش في اسطنبول وبيروت وباريس ولوس انجليس وغليندال، وجميع وجهات الشتات الأرمني، وبتمويل من قبل مانحين ومؤسسات محلية، كل حسب زاويته الفريدة والخاصة في ما يخص هذا التأريخ. 
عقدت آخر ورشة عمل في أثينا حيث تعيش أقلية صغيرة من الأرمن التي وصلها الآلاف منهم بصفة لاجئين خلال أوائل عشرينيات القرن الماضي. على مبعدة ميل الى الجنوب من أكروبوليس، وفي احدى الغرف الخلفية لمدرسة ابتدائية تتناوب الدوام مع مركز ثقافي أرميني، يتقاطر اليه العشرات من الأرمن، غالبيتهم في الخمسينيات والستينيات من العمر، حاملين أكياس تسوق مليئة بصور وكتب ملفوفة بعناية فائقة، الى جانب منسوجات وقطع من الحلي. 
متحدثا بصوته الجهير الأرمنية بطلاقة، يلتقي تاشجيان كل شخص يأتي الى المركز يسألهم فيه عن تأريخ أسرهم وما يحتفظون به من موروثات وعن الذكريات التي عاشوا فيها أو مروا بها عن القرى والمدن التي فرت منها الأسر. وقد جلبت السيدة فيكي خاتشودوريان معها، أواني فضية وسجادة منسوجة، كانت قد جلبتها جدتها معها من القسطنطينة (تعرف اليوم باسطنبول) الى جزيرة كيفالونيا اليونانية، الى جانب أشياء اخرى كانت من ضمن متطلبات مهر جدتها، "كانت محظوظة، حظيت بفرصة للنجاة بحياتها" تقول خاتشودوريان. 
 
مذكرات من المنفى
تجلس على مقربة منهم على الأرض، معلمة اللغة الأرمنية أرشالوس سابريتشجيان، وهي تقلب صفحات مصورة لدفتر ملاحظات، كان عبارة عن  السيرة الذاتية لجدها، دونها في العام 1986 عندما كان في الثمانين من عمره، وبدأها من السنوات التي عاش فيها في المنفى مع اندلاع الابادة الجماعية وفقدان الكثير من أفراد أسرته كنتيجة لها. تضمنت مذكرات الجد كيفية تمكنه من لمّ شمله مع والدته، على نحو غير متوقع،  ليصبحا لاجئين في اليونان، يتنقلان خلالها من مستوطنة مؤقتة الى أخرى برفقة أرمن آخرين فارين. تعقد سابريتشجيان مقارنة بالطريقة التي تتعامل بها الحكومة اليونانية مع التدفق الأخير للاجئين من مختلف البلدان من بينها سوريا 
وأفغانستان. 
تقول سابريتشجيان: "اليوم عندما أشاهد ما يحدث مع اللاجئين، أقف عند أمور ينفطر لها قلبي، لأنها تشبه كثيرا ما حدث مع جدي"، وهي قصة لم يسبق لجدها أن رواها لأحفاده حتى لحظة كتابتها ضمن هذه المذكرات، مضيفة، "كان يريد أن نكبر ونعيش بسعادة، لم يكن يريد لنا ان نتحمل كل هذه الأعباء، لكنه عندما دخل سن الثمانين، قرر ان يشاركنا إياه".
فيما بعد، عرضت سيلفا آفيديسيان، مطرزة ناعمة بلون أبيض، طالبة المساعدة لفك رموز الحروف التي طرزتها جدتها عند الزوايا، إذ فرت من معسكرات الاعتقال وهي بعمر 18 سنة مع والدتها المحتضرة بأجواء عاصفة، ما اضطرها لدفنها لوحدها بيديها العاريتين. وتقرأ الحروف المطرزة عبارة، كما أوضح احد المترجمين "الله يمنحك الصحة والعافية". ومع نهاية اليوم، تكاد مفكرة  تاشجيان تمتلئ بالقصص وتاريخ الأسر، والمئات من المواد التي تمت مشاركتها وتصويرها. 
 
تأريخ عثماني
حمل الاشخاص، ممن أرغموا على النفي أو الفرار على متن قوارب الى أماكن أخرى كاليونان، على سبيل المثال، القليل فقط من الأشياء، لتصبح الحاجيات التي تمكنوا من نقلها، بمرور الزمن، آثارا يتفاخرون باقتنائها، مثل قرط يعود لجدة إحدى السيدات كانت تمسك به وهي تفر من منزل يحترق، وكتاب صلوات تتلوها إحدى العائلات كل ليلة، وأحد العقود الموكلة لطفل يبلغ السادسة من العمر كان يفر من أنقرة على أمل أن تعيد، يوما ما، الحكومة التركية أرض عائلته. "ربما تمثل هذه المواد آخر اتصال لهذه الأسر بهويتها". 
أما بالنسبة للآخرين من الذين فروا قبيل الأبادة، وبشكل خاص، أولئك الذين فروا الى الولايات المتحدة بصفة عمال مهاجرين في ماساتشوستس وميشيغان أو مزارع وادي كاليفورنيا، فان خيوط التأريخ لديهم أكثر سماكة، فالرسائل والصور كانت تتدفق عليهم ذهابا وايابا بين أفراد العائلة، وفي بعض الأحيان، ربما تكون هذه الأخبار الواردة من القرية الأم الى أحدهم، هي التوثيق الأخير لمكان وأشخاص مسحوا من على وجه الخريطة. 
وفقا لتقديرات تاشجيان، فإن مشروع" هوشاماديان" نجح بجمع أكثر من 30 الف صورة من عموم أرض الشتات، الى جانب مجموعة متنوعة من الوثائق التي تبين الحياة اليومية ، فقد شملت وصفات الطعام ووجداول المدارس وتراتيل موسيقية مشروحة كانت ترنم في بعض الكنائس المسيحية الأولى. وقد أصبحت التحف المبعثرة تلك، نوعا جديدا من أرشفة تأريخ مهمل، فالى جانب نشر مختلف المخطوطات والصور تعود لمجموعات أسرية، استخدم بعض الاكاديميين الموقع الالكتروني لنشر بحوثهم عن حياة ماقبل الابادة.  
تشير هارتمان، العضو المؤسس المشارك للمشروع والاستاذ البديل للدراسات التركية بجامعة هامبورغ، بأنه على مدى قرون، كان ينظر الى التأريخ العثماني، ببساطة، على انه تأريخ تركي، ماحٍ للشعوب الأخرى من الصورة: "لكن هذا الشيء بدأ يتغير ببطء" مضيفة: "اليوم، هناك اهتمام بالاطلاع على الامبراطورية العثمانية بجموعها". لكن، في الوقت ذاته، ومع تقادم سن  افراد تلك الأسر، بدأت الصلات بتأريخ ما قبل الابادة بالتلاشي "فالكثير من الأشياء قد اختفت بالفعل" بحسب تاشجيان.
يقول الأب فيكين جولاكيان، راعي الكنيسة الأنجيلية الأرمنية باليونان، أن هناك مخاطر من أن الاجيال الشابة ستفقد اهتمامها بإدارك هذا الجزء من تأريخهم، معبرا عن قلقه من أن قصص الإبادة والنضال الذي تلاها، قد تخطت قصص الأرمن وأن الأجيال الشابة ستبدي اهتماما بالمستقبل أكثر مما قد يبدو ماضيا أسود بالكامل. 
 
*صحيفة لوس أنجليس تايمز