لا الولايات المتحدة أو إيران تريدانها حرباً شاملة

بانوراما 2020/03/01
...

 
 
محمد أيوب  ترجمة/ انيس الصفار                                          
 
 
 
أهم ما يمكن استشفافه من الأزمة التي نشبت عقب اغتيال الجنرال قاسم سليماني هي أن لا إيران ولا الولايات المتحدة لها رغبة أو مصلحة في تصعيد المواجهة بينهما الى مستوى الحرب الشاملة. يتجلى هذا بوضوح عند النظر الى الصياغة الدقيقة الحذرة التي أعد بها الرد الإيراني على عملية الاغتيال وكذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس ترامب واعتبر فيه أن الهجوم الصاروخي الإيراني على قاعدتين أميركيتين في العراق يدل على أن طهران قد "أخذت بالتراجع" عن وضع المجابهة مع الولايات المتحدة.
 
ينبئ رد الفعل الإيراني على اغتيال سليماني بأن طهران قد أحجمت عن إنزال ذلك القدر من الاضرار بالجانب الأميركي، لا سيما العنصر البشري، الذي يرغم واشنطن على اتخاذ اجراءات انتقامية بمقياس قد يجرّ البلدين الى منزلق الحرب. فقد أبلغت إيران بغداد بعزمها على مهاجمة قاعدة عين الاسد والقاعدة الأخرى في أربيل قبل تنفيذ عمليتها بساعات، وعلى الفور أشعرت بغداد واشنطن بالأمر فاتخذت الأخيرة اجراءات آنية لضمان عدم فقدان ارواح بين الاميركيين. 
بذا انتفت الضرورة لتوجيه ضربات انتقامية الى أهداف إيرانية.
اعلان الرئيس ترامب بأن الهجمات الصاروخية الإيرانية لم توقع اية اصابات وتجاهله الخسائر المادية التي لحقت بالقاعدتين، أعطى هو الاخر انطباعاً مقصوداً ومساوياً بأن الهجمات فشلت في تحقيق هدفها الاساس وبالتالي انتفت الحاجة لاتخاذ إجراء انتقامي أبعد اثراً (أعلن البنتاغون لاحقا أن حصيلة الخسائر بلغت 110 مصابين بارتجاج المخ نتيجة للضربات الصاروخية الايرانية). كلتا واشنطن وطهران اعطتا اشارات واضحة، من خلال الاقرار بأمور والتغاضي عن أخرى، على انهما تتراجعان عن حافة المواجهة.
لذا يجدر بنا تأمل الاسباب التي جعلت كلا الجانبين ينتهيان الى هذا الاتفاق غير المعلن بأن الحرب الشاملة لن تكون في صالح أي منهما.
 
العقوبات الاقتصادية
 
استند القرار الإيراني بعدم التصعيد على حسابات واقعية صارمة. بدءاً ينبغي الاشارة الى ان الاقتصاد الإيراني كان يعيش حالة من التردي أهم اسبابها العجز والفساد والمحسوبية، وكان يقي نفسه من التهاوي أساساً بالاعتماد على تصدير النفط بكميات كبيرة وأسعار مرتفعة نسبياً فيؤمن بذلك اموالاً تغطي الانفاق الحكومي والمساعدات التي تقدم للقطاعات الاشد فقراً في المجتمع، وبذلك يستمر الدعم للنظام. تداعت هذه الستراتيجية بسبب قرار الرئيس ترامب بإعادة فرض العقوبات الاقتصادية الصارمة في أيار 2018، وخصوصاً على مبيعات النفط الإيراني، لإرغام إيران على العودة الى طاولة التفاوض بشأن الصفقة النووية التي تم التوصل اليها في العام 2015. أدت هذه العقوبات الى انتكاس صادرات النفط الإيراني من 2,5 مليون برميل يومياً، خلال نيسان 2018، الى كميات لا تكاد تذكر، لا سيما بعد رفض واشنطن في أيار 2019 تمديد الاستثناءات المؤقتة من العقوبات التي كانت تمنحها لأكبر ثمانية من مستوردي النفط الإيراني.
جراء ذلك عانى الاقتصاد الإيراني من انتكاس شديد، ويقدر صندوق النقد الدولي أنه ينكمش بمعدل 9,5 بالمئة كل عام، أما التضخم فقد بلغ حدود 40 بالمئة ويقدر البنك الدولي نسبة الشبان الإيرانيين العاطلين عن العمل بنحو 25 بالمئة، كما هبط السعر الرسمي للعملة الإيرانية من 8000 ريـال للدولار الواحد في العام 2003 الى 42000 (معدل التحويل غير الرسمي ثابت عند حدود 135000). تبعاً لذلك تراجعت قدرة الشركات الإيرانية على شراء المكونات الضرورية لنشاطاتها الصناعية من الخارج تراجعاً جسيماً.
انعكست الضائقة الاقتصادية على الفضاء السياسي ايضاً. ففي عامي 2018 و 2019 تكرر خروج تظاهرات احتجاج حاشدة بلغت ذروتها في شهر تشرين الثاني 2019 عقب اتخاذ الحكومة قراراً برفع أسعار الوقود بنسبة 50 بالمئة. 
هذه التظاهرات أحرجت وضع الحكومة الإيرانية وأدت الى وقوع مصادمات أعقبها شيء من الهدوء لفترة مؤقتة ثم لم تلبث أن اندلعت مرة أخرى بعد اسابيع قليلة. كان السبب في هذه المرة هو اسقاط الحرس الثوري الإيراني طائرة ركاب أوكرانية ومقتل إيرانيين كانوا على متنها من المقيمين في كندا أو الذاهبين اليها في زيارة، بيد أن الاحتجاجات أساساً 
كانت دلالة على تذمر الداخل الإيراني جراء الضائقة الاقتصادية وتأزم الوضع السياسي.
إعادة ترتيب الاوضاع
الاوضاع الداخلية القلقة لن تسمح للحكومة الإيرانية بالتورط في مواجهة واسعة مع الولايات المتحدة، هذا هو الاستنتاج الذي يفرضه وضع إيران على الساحة الدولية. لا ريب أن إيران قد تمكنت من بناء شبكة من الوكلاء والحلفاء في عدد من دول المنطقة، هذه الشبكات ربما تكون قد ساعدت طهران على توسيع نفوذها في انحاء الشرق الأوسط ولكنها عبر التحليل النهائي ستكون هامشية التأثير في حالة اندلاع مواجهة مع الولايات المتحدة. صواريخ حزب الله التي ستضرب اسرائيل مثلاً قد تتسبب بخراب لبنان جراء الرد الاسرائيلي، مثلما حدث في العام
 2006.
كذلك قد يكون هناك بين القوى الخارجية بعض الاصدقاء لإيران، مثل روسيا وتركيا، ولكن هؤلاء لن يكونوا حلفاء حقيقيين. في سوريا مثلاً قد تكون المصالح الإيرانية والروسية متلاقية، لأن الاثنين يقفان في صف حكومة الرئيس السوري بشار الاسد، ولكن هذا الالتقاء لم يترجم الى تحالف فعلي، وقد رأينا كيف كانت روسيا تقف جانباً وهي ترى اسرائيل تهاجم أهدافاً إيرانية أو أخرى تابعة للجماعات التي تدعمها إيران في سوريا مراراً عديدة على مدى عامين من دون أن تحاول تحذير اسرائيل بالكف عن ذلك. تصور احتمال أن تهب روسيا لنجدة طهران في حالة وقوع مواجهة مع الولايات المتحدة حلم بعيد التحقق، والإيرانيون يدركون هذا جيداً.
ربما كانت تركيا تسمح بتهريب بعض النفط الإيراني عبر اراضيها، وربما كانت لديها مصالح متوافقة مع إيران ازاء منع الكرد من الانفصال، ولكن طهران لا يمكنها الاطمئنان الى أن أنقرة سوف تهب لنجدتها في حالة نشوب حرب مع الولايات المتحدة. فتركيا عضو في حلف الناتو وعلاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة راسخة عميقة الجذور، رغم الخلاف الأخير الذي دب بينهما بسبب سعي أنقرة لاقتناء أنظمة "أس 400" المضادة للصواريخ من 
روسيا. 
أقصى ما يمكن توقعه من تركيا هو أن تمنع القوة الجوية الأميركية من استخدام قاعدة أنجرليك عند نشوب الحرب ضد إيران، ولكن الولايات المتحدة تمتلك بدائل عديدة في المنطقة، لا سيما في الخليج، وبذلك يرجح أن تستغني عن قاعدة أنجرليك في حالة نشوب مثل تلك 
الحرب. 
 
نتائج غامضة
الحكومة الإيرانية إذن مجردة من الحلفاء الخارجيين، ووضعها الداخلي مفتقر للاستقرار، لذلك فإن قيام حرب مدمرة مع الولايات المتحدة تحت مثل هذه الظروف سوف يعني انهيار النظام سياسياً.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن تردد الرئيس ترامب في دخول مواجهة كبرى يمكن تفهمه من خلال استعراض عدد من العوامل. أولاً من الواضح أنه لا يريد التورط في حرب جديدة في الشرق الأوسط في سنة انتخابية، ولهذا سببان هما وعوده المكررة بإعادة الجنود الأميركيين الى بلادهم، وهي الوعود التي اكسبته أصواتاً كثيرة في العام 2016، وعدم إمكانية التنبؤ بالنتيجة التي ستنتهي اليها الحرب مع إيران. 
فالتغلب على إيران سوف يتطلب اعداداً كبيرة من القوات، كما ان الحرب البرية يمكن أن تستحيل الى مستنقع لا نصر فيه ولا غلبة .. مستنقع يبدو تورط واشنطن في العراق أمامه لعب 
أطفال. ثانياً أن وقوع مجابهة كبرى مع إيران من شأنه اعطاء مصداقية لحجج منتقديه في الداخل بأن الهدف من شن الحرب هو حرف الانتباه عن عملية عزله الماضية في مجراها حالياً. كل ذلك قد يترك آثاره على آراء بعض السيناتورات الجمهوريين الذين يشعرون منذ الان بعدم ارتياح من الدور الذي يلعبه الرئيس في الشأن 
الأوكراني.
ثالثاً، تنبئ المحنة الاقتصادية التي تعيشها إيران والاحتجاجات السياسية الضخمة التي تندلع وتتصاعد هناك بأن سياسة ترامب، المتمثلة بتسليط أقصى الضغوط، تفعل فعلها. 
نظراً لذلك يكون من المنطقي والمعقول بالنسبة لواشنطن الافتراض بأن النظام في إيران يعاني من ضائقة تنذر بأسوأ العواقب، وهذه سوف تجبره على العودة الى طاولة التفاوض بشأن الاتفاقية النووية والاذعان، ولو لبعض المطالب الأميركية، لكي ينقذ نفسه. الافاق المرجوة من مثل هذا السيناريو تجعل الحرب مع إيران زائدة لا داعي لها، على قدر تعلق الأمر بتحقيق واشنطن هدفها 
المنشود.يبدو إذن أن ثمة عوامل عديدة في الولايات المتحدة وإيران تتضافر مع بعضها بتزامن على نحو يقيد كلتا الحكومتين ويبعد احتمالات الحرب كخيار واقعي، في الوقت الحاضر على الأقل. 
ولكن إن تكن هذه العوامل حالياً حائل دون اندلاع مواجهة كبرى فإنها لا تعالج القضايا الاساسية التي تكمن وراء علاقة التعادي بين إيران والولايات 
المتحدة. 
هذه القضايا الاساسية يمكن إدارتها بحنكة، إن لم نقل معالجتها بشكل كامل، من خلال مساع دبلوماسية جادّة طويلة النفس بدلاً من أسلوب الاغتيالات والضربات الثأرية المتبادلة التي تجعل طريق الدبلوماسية مسلكاً في غاية الصعوبة إن لم نقل مستحيلاً على المدى 
البعيد.
 
* محمد أيوب استاذ فخري بدرجة الامتياز متخصص بالعلاقات الدولية من جامعة مشيغان.