شيا بيسو.. رائدة الكمبيوتر التي أسهمت ببناء الصين الحديثة
علوم وتكنلوجيا
2020/03/02
+A
-A
لندن/ بي بي سي
مع اقتراب نهاية النصف الأول من القرن العشرين، كانت الصين التي أرهقتها عقود من الحروب التي مع اليابان والصراعات الداخلية، قد تخلفت عن ركب التقدم التكنولوجي العالمي.
وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، زُج بالبلاد في أتون الحرب الباردة، وقطعت عنها الدول الرأسمالية الغربية المساعدات والصادرات، ما دفع العلماء الصينيين للاعتماد كليا على الأجهزة والخبرة السوفيتية ليشقوا طريقهم إلى عالم تكنولوجيا الحاسبات الآلية.
"النموذج 107"
لكن عندما ساءت العلاقات بينها وبين الاتحاد السوفيتي، عمدت الصين رغم عزلتها لاستغلال طاقاتها والبحث عن موطئ قدم في العالم الذي يزداد اعتمادا على الكمبيوتر. وبعد عام من قطع المساعدات السوفيتية عن الصين، طورت شيا بيسو، عالمة الكمبيوتر، "النموذج 107"، وهو أول كمبيوتر محلي صيني إلكتروني رقمي للأغراض العامة.
واليوم تحتل الصين الصدارة في إنتاج أجهزة الكمبيوتر. وفي العام 2011، أصبحت الصين أكبر سوق لأجهزة الكمبيوتر الشخصي، متفوقة على الولايات المتحدة. ومن المتوقع أنْ تتجاوز إيرادات قطاع أجهزة الكمبيوتر الشخصي وحده 6.4 مليارات دولار العام الحالي.
لكنَّ بناء قطاع جديد للكمبيوتر من الصفر كان يتطلب وجود فريق من العاملين المهرة، وقد لعبت شيا دورا بارزا في هذا الصدد.
إذ أسهمت شيا في وضع اللبنات الأولى في بعض معاهد علوم الحاسوب وتكنولوجيا الحاسبات الآلية الأولى ووضعت مناهجها التدريبية، وكانت أول من يدرس علم الحاسوب النظري، وساعدت مئات الطلاب الصينيين في تلمس طريقهم في مجال علم الحاسوب الوليد، ولا يزال صدى إنجازاتها يتردد في الوقت الحالي.
نبوغ مبكر
وولدت شيا لعائلة من المدرسين في بلدية تشونغتشينغ في العام 1923، والتحقت بالمدرسة الابتدائيَّة في الرابعة من عمرها، ثم أظهرت نبوغاً في المدرسة الثانوية ساعدها في التفوق على أقرانها.
وعندما اشتعلت الحرب الصينية اليابانية الثانية، التي دارت رحاها لثمانية أعوام وحصدت أرواح ملايين المدنيين الصينيين، استولت اليابان على مدينة نانجينغ عاصمة جمهورية الصين آنذاك، وفرّ سكانها إلى تشونغتشينغ مسقط رأس شيا. ونقلت الجامعة المركزية الوطنية مقرها من نانجينغ إلى تشونغتشينغ، والتحقت بها شيا في العام 1941 لدراسة الهندسة الكهربائية.
والتقت شيا في العام ذاته الذي تخرجت فيه بزميلها في الجامعة يانغ ليمينغ الذي كان من لاجئي الحرب من نانجينغ، واستمرت علاقتهما حتى بعد أنْ سافرت شيا إلى شنغهاي لمواصلة الدراسات العليا بجامعة جياو تونغ. وسافر يانغ إلى جامعة إدنبرة وتتلمذ على يد ماكس بورن الحائز على جائزة نوبل.
وبعد عامين، سافرت شيا إلى جامعة إدنبرة لتحضير رسالة الدكتوراة في الهندسة الكهربائية، ووضعت منهجيات جديدة للتنبؤ بدقة بالتغيرات في الترددات في الأنظمة الإلكترونية التي أفسحت المجال لتطوير تطبيقات واسعة النطاق تصلح لأي نظام له تردد كهربائي، مثل أجهزة الراديو والتلفاز والكمبيوتر.
وفي العام 1950، نالت شيا شهادة الدكتوراة وتزوجت من يانغ في إدنبرة، وعاد الزوجان إلى الصين في العام 1951، وانخرطا في سلك التدريس بجامعة تشينغوا، حيث أجرت شيا أبحاثا عن الاتصالات. لكن الزوجان وجدا بلدا غير البلد الذي غادراه.
إذ تعثر النمو الاقتصادي والصناعي الصيني وتداعت بنيتها التحتية تحت وطأة الحرب الصينية اليابانية الثانية والاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد وأسفرت عن حرب أهلية انتصر فيها الحزب الشيوعي الصيني على حزب القوميين الصيني.
"الكمبيوتر الصيني"
ويقول توم مولاني، المؤرخ بجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب "الكمبيوتر الصيني"، إنَّ الحرب الصينية اليابانية الثانية خلفت دماراً واسعاً في البلاد، وانتقلت جميع مؤسسات التعليم العالي والمراكز المالية والمركز الرئيس للإنتاج الصناعي ومقرات الحكومة الصينية إلى مدينة ووهان، هرباً من أهوال الحرب. وبعد سقوط ووهان، نقلت مقراتها إلى مدينة تشونغتشينغ. وفي ظل الأزمة المالية الطاحنة التي كانت تمر بها البلاد، لم تفكر الحكومة الصينية في الاستثمار في الهندسة الكهربائية.
وبعد أن تقلد الحزب الشيوعي زمام السلطة، رفضت الولايات المتحدة والدول الرأسمالية في الغرب تقديم مساعدات للدولة الشيوعية الوليدة وأوقفت تصدير منتجاتها إليها. ولجأ ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي إلى الاتحاد السوفيتي، الذي استغل الفرصة ليضم الصين إلى الكتلة الشيوعية، ووافق على مساعدتها اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا.
وفي العام 1953، اختيرت شيا لتكون من الأعضاء المؤسسين لأول مجموعة بحثية صينية في مجال الكمبيوتر بالأكاديمية الصينية للعلوم، التي كانت مركزا لأبحاث تكنولوجيا الحاسوب.
وفي العام 1956، وقعت الصين والاتحاد السوفيتي بروتوكولا طويل الأجل لتطوير التكنولوجيا والعلوم الوطنية. وكان قطاع تكنولوجيا الحاسوب واحداً من المجالات الأساسيَّة التي اهتم الحزب الشيوعي والأكاديمية الصينية للعلوم والخبراء السوفيتيون بتطويرها من أجل بناء الدفاع الوطني الصيني.
أسس علم الحاسوب
ويقول مولاني إن الكمبيوتر الإلكتروني استخدم في دعم تطوير الأسلحة النووية واختبارها، وإدارة شبكات النقل وتطوير البرنامج الفضائي لإطلاق القمر الصناعي الصيني. وأدركت الصين أنها لن تتمكن من منافسة الدول الغربية اقتصاديا وعسكريا من دون الوصول للفضاء.
لكن تصنيع جهاز كمبيوتر لم يكن يسيرا. فحينها لم يكن علم الحاسوب مجالاً دراسياً مستقلاً بذاته، بل كان موزعاً على الرياضيات والفيزياء والهندسة. وقد لعبت شيا دورا كبيرا في وضع الأسس لعلم الحاسوب، مستعينة بخبرتها الواسعة في مجال الإلكترونيات والرياضيات.
وفي العام 1956، انضمت شيا إلى وفد لزيارة موسكو وليننغراد للتعرف على الأبحاث السوفيتية والإنتاج والتعليم في مجال الكمبيوتر. وترجمت كتباً عن تصميم الكمبيوتر من الروسية إلى الصينية، كان من بينها كتيب إرشادي من 1000 صفحة عن تكنولوجيا الحاسبات الآلية السوفيتية.
وفي العام نفسه، درّست شيا مادة علم الحاسوب النظري لأول مرة في الصين، كما أسهمت في تأسيس قسم علوم الحاسوب بالأكاديمية الصينية للعلوم الذي كان نواة لجامعة العلوم والتكنولوجيا. وساعدت شيا في وضع مناهج علم الحاسوب بالجامعة ومعهد تكنولوجيا الحاسوب، وأشرفت على تدريب مئات الطلاب من عام 1956 إلى 1962.
وفي العام 1959، نجحت الصين في محاكاة نموذجين حاسوبيين سوفيتيين، نموذج 103 ونموذج 104 على غرار النموذجين السوفيتيين "إم 3" و"بي إي إس إم-2"، لكن العلاقات السوفيتية الصينية أخذت تسوء إثر نشوب خلافات بين الزعيمين حول المركزية في العالم الشيوعي ومدى صحة المسار الشيوعي الذي تتبعه كلا الدولتين.
وفي العام 1960، قطع الاتحاد السوفيتي جميع أشكال الدعم، ماديا واستشاريا، عن الصين، حتى ظنت الكثير من الدول أن قطاع الكمبيوتر في الصين سيتداعى.
أول كمبيوتر صيني
لكن العكس كان صحيحا، فقد استأنف الباحثون بأكاديمية العلوم الصينية دراساتهم في قطاع تكنولوجيا الحاسوب وعلومه دون الاعتماد على أحد. وطورت شيا أول كمبيوتر صيني بالكامل بتصميم مبتكر، وأطلقت عليه اسم "نموذج 107"، وسرعان ما استخدم في المعاهد التدريبية في أنحاء الصين.
وفي الستينيات من القرن العشرين، واصلت الصين تصنيع أجهزة كمبيوتر أكثر تعقيدا وتطورا. وفي عام 1972، عندما زار وفد من علماء الكمبيوتر الأمريكيين الصين، دهشوا من مدى التقدم الذي حققته الصين بمفردها.
وواصلت شيا دراساتها لتطوير أجهزة الكمبيوتر عالية السرعة، وظلت تدرب علماء ومهندسي الكمبيوتر الشباب. وفي العام 1978، أسهمت شيا في تأسيس دورية الكمبيوتر الصينية، ودورية تكنولوجيا الحاسوب وعلومه، أول دورية باللغة الإنجليزية مختصة بالكمبيوتر.
وفي عام 1981، طورت شيا "150 أيه بي"، وهو وحدة معالجة مركزية يمكنها تأدية 20 مليون عملية في الثانية.
وبفضل جهود شيا، أصبح علم الحاسوب مجالا دراسيا مستقلا في الصين وازدهرت صناعة الكمبيوتر في البلاد رغم بداياتها المتعثرة.
مستقبل الصين التكنولوجي
فقد أسهمت شيا في تشكيل مستقبل الصين التكنولوجي بمساهمتها في إقامة مؤسسات تعليمية وتعليم أجيال من الطلاب وضعوا أسس قطاع تكنولوجيا الحاسوب الذي نراه اليوم.
ولا تزال شيا تلقب في الصين باسم "أم الحاسبات الصينية" عرفانا بجهودها في تأسيس قطاع الكمبيوتر في الدولة. ويمنح اتحاد الكمبيوتر الصيني جائزة شيا بيسو للعالمات والمهندسات اللائي يحققن إسهامات بارزة في هندسة الحاسوب وعلومه وصناعته وأبحاثه.
ونالت هذه الجائزة مؤخرا تشين زونينغ لإسهاماتها في تطوير أنظمة حاسوب عالية الأداء، وهوان لينجي لأبحثاها في مجال وحدات المعالجة المركزية. وتسير هاتان العالمتان وغيرهن على الدرب الذي خطته لهن شيا لتطوير تكنولوجيا الكمبيوتر في الصين.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة