كونيغسبيرغر .. مبتكر المنازل الواطئة الكلفة

بانوراما 2020/03/02
...

ماروشا مظفر
ترجمة: بهاء سلمان
عندما انفصلت الهند وباكستان الى بلدين العام 1947، كانت الحاجة شديدة الى منازل تؤوي نحو نصف مليون نازح ومرحل من كلا البلدين. ومع وصول أعمال العنف بين أفواج المرحلين الى ذروتها مع عدم وجود مكان يذهبون اليه، قررت الحكومة الهندية، أثناء عهد رئيس الوزراء جواهرلال نهرو، تشييد منازل للمرحلين، على شكل مبانٍ واطئة الكلفة توفر ملاذا أساسيا للاجئين البائسين.
لجأت الحكومة آنذاك الى "اوتو كونيغسبيرغر"، المهندس المعماري الألماني من أصول يهودية، لادارة المشروع؛ إذ كان يعمل في الهند منذ سنة 1939، بعد فراره من بلده الأم في اعقاب وصول حكومة الرايخ الثالث. وبعد هجرته الى منطقة بانغلور الهندية، صار كونيغسبيرغر كبير المهندسين المعماريين والمخطط الحضري لولاية مايسور الأميرية. بعد تسع سنين، أصبح البرليني الأصل مديرا لاسكان وزراة الصحة الهندية، وكلف باعادة توطين أعداد هائلة من اللاجئين المرحلين بسبب تقسيم البلاد.
 
خدمة البلدان النامية
منصور علي، المعماري الساكن في بانغلور والذي يدير شركة سياحية تجري جولات على الأقدام لمعالم المدينة التاريخية، يوضح قائلا: "ذهب كونيغسبيرغر أولا الى مصر، لكنه لم يحظ بالكثير من العمل هناك، ومن ثم قدم الى الهند مع اندلاع الحرب العالمية الثانية." 
تم توظيف المعماري الألماني من قبل مهراجا ميسور، وأشرف على بناء 27 بناية وسط بانغلور، بحسب علي. وبعمله في الهند خلال أربعينيات القرن العشرين، بات كونيغسبيرغر مدركا بشكل تام بعدم جدوى تطبيق التفكير التقليدي لمواجهة النمو الحضري المتسارع على امتداد بلدان نامية أخرى لاحقا.
بعد تقسيم الهند وباكستان، كان هناك في أقل تقدير 50 ألف لاجئ داخل الهند بحاجة الى اسكان فوري. وباستغلال موقعه كمدير للاسكان بوقت قصير بعد كسب الهند استقلالها شهر آب 1947، بدأ كونيغسبيرغر بتأسيس مشروع رائد أطلق عليه ’مصنع اسكان هندستان‘ في دلهي، إذ كانت فكرته استخدام اسكان مسبق الصنع، من الذي يمكن تصنيعه بشكل سريع استجابة للطلب، كحل لأزمة اللاجئين التي كانت تعصف بالبلاد.
أسس المعماري الألماني سمعته كخبير من خلال منظور "تخطيط العمل"، وهو قسم تابع لدائرة تخطيط المدينة يعتمد على دراسات استقصائية ثابتة لظروف حاضرة. كتب كونيغسبيرغر ذات مرة الى أحد زملائه سنة 1951: "كلما زاد زمن العمل التخطيطي لي في الهند كلما صارت قناعتي أكثر رسوخا أن الخطط والتقارير الرئيسية ليست كافية، ومن الضروري تماما انشاء منظمة حيّة ... يتعامل بشكل دائمي مع مشاكل التخطيط ويبقي على المفهوم الأساسي للخطة نابضا بالحياة."
وظف كونيغسبيرغر هذه المنهجية الديناميكية لتصميم اسكان واطئ الكلفة لعوائل العمال الهنود، وعدة مباني شملت معهدا دراسيا ومحطة حافلات وحوض سباحة، وغير ذلك من مباني مختلفة الأغراض. اضافة لذلك، كان دوره حيويا في التخطيط لاقامة بلدات جامشيدبور وغانديدام وبهوبانسيوار.
 
اعتبارات مهمة
تجذر تأثير كونيغسبيرغر كمعماري رائد أيضا من اصراره على تقدير وقع الطقس على المباني والتخطيط. وفي كتابها الموسوم "اوتو كونيغسبيرغر: الهندسة المعمارية والنظرات الحضرية في الهند"، اقتبست مؤلفة الكتاب "راتشيل لي" رسالة كتبها المعماري الألماني الى والدته من احدى فنادق مدينة كولومبو السريلانكية، شهر نيسان 1939: "لدي غرفة كبيرة، من السقف الذي يحمل مروحة ضخمة تحوي على أربع ريش طول الواحدة منها سبعين سنتمترا. سقوف الغرف عالية جدا كي تسمح للهواء الحار بالارتفاع، ومن ثم تضخ المروحة الهواء الحار نزولا نحو الساكن المسكين. هذا الأمر يبدو غير عملي للغاية، لكن من دون مروحة لا يمكن مطلقا النوم وسط هذه الرطوبة الحارة." وتشير لي إلى أنه من خلال تأمل هذه الأفكار، طوّر المعماري الفذ منهاجه الأكثر تنويريا للمباني الواقعة جنوب غربي مدينة
 ميسور.
أثناء تصميم المنازل للاجئين المرحلين، كما يوضح علي، اتخذ كونيغسبيرغر خطوة جريئة غير مجرّبة سابقا باستخدام ألواح جدارية مصنعة بخرسانة خلوية، وهي مادة فعّالة لضبط درجات الحرارة، ومن الممكن توفيرها محليا. وبسبب توكيده على الابتكار والقدرة على تحمل التكاليف، صار كونيغسبيرغر المعماري المساهم بتحديات الطقس المشابهة، فقد تم توظيفه، كما تكتب لي، للعمل في "مستعمرات ومناطق مدارية ودول العالم الثالث النامية." في نهاية المطاف، تم تسميته مديرا لقسم الدراسات التنموية والمدارية في رابطة المعماريين في لندن، واستاذ محاضر لتخطيط التنمية بجامعة لندن ومستشار أقدم للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة والبنك الدولي.
وصل مشروع اسكان اللاجئين لكونيغسبيرغر الى نهايته خلال شهر كانون الأول 1950، حيث انهارت المنازل، محدثة فضيحة مدوّية، وتم طرده من منصبه بعد أشهر عدة، ليرجع الى أوروبا، كشخص منفي مجددا. ولكونه يمثل من أوائل أنصار "تصميم مستدام وملائم للطقس وكفوء باستخدام الطاقة"، وفقا لكلمات لي، كان كونيغسبيرغر سابقا لزمانه. وعندما توفى المعماري المنفي سنة 1999 في لندن بعمر ناهز التسعين عاما، كان إرثه مؤلفا من قافلة من المباني، والتزاما لتحسين معيشة الفقراء، كما يبقى كتيّبه الخاص بتصميم اسكان ومباني المناطق المدارية‘ نصا قياسيا ترجم الى لغات عدة لأجل تعقبه من قبل أجيال من المعماريين.
 
مجلة اوزي الاميركية