د. عبدالجبار الرفاعي
شكري الخاص لهذه الجائزةِ، لأنها فاجأتني العامَ الماضي بمنحي "الجائزةَ الأولى للإنجاز والتفاهم الدولي"، بينما لم يكرّمني وطني بأية جائزة، كما لم تكرّمني بلادٌ أخرى اضطررتُ للعيش فيها أكثر من نصف عمري، وترجمتُ ونشرتُ كتابات مهمة من لغتها إلى العربية، وبفضل ذلك تعرّف عليها القراءُ بالعربية للمرة الأولى. وقد كنتُ وما زلتُ، في كل جهودي منذ أكثرَ من 30 عامًا، أنشد تكريس قواعد السلام والعيش المشترك في
عالم الاسلام.
للمترجمين أثرٌ عظيمٌ في إثراء المعرفة وتطورها، وبناء جسور التواصل الحضاري، وتلاقح الثقافات ونضجها، وترسيخ قواعد السلام والعيش المشترك، وتكريس قيم الحوار الإيجابي مع المختلف دينيًا وثقافيًا. لكن لا يقدّر كثيرون أهميةَ الترجمة في بلادنا، ولا يحتفون بمنجز المترجم، وربما يظن بعضهم أنَّ الترجمةَ عمليةٌ ميكانيكية، ومنجزُ المترجم ليس إبداعيًا. الترجمةُ ضربٌ من الكتابة الذكية التي تتطلب تكوينًا ثقافيًا خاصًا وهي ليست عملية ميكانيكية.
حضارتُنا بادرت قبل أكثر من 1000 سنة بالاهتمامِ بالترجمة والاحتفاء بالمترجم ومنجزه، يقال: "كان الخليفةُ المأمونُ يعطي مترجمَ الكتابِ وزنَه ذهبًا"، ويقال: "كان الراتبُ الشهري للمترجم في عهد الخليفة المأمون ٥٠٠ دينار ذهب، أي ما يعادل ٢٤ ألف دولار شهرياً. وكان يعطي من يأتي بكتاب نفيس ضعف وزنه
ذهباً". ومهما كانت القيمةُ الماديةُ للجائزة فإنها لا تساوي المكافأةَ المعنويةَ للمترجم، لأنها تجعل منجزَه يفرض نفسه على التاريخ، عندما تضعه في الموقع الذي يستحقه في مسار حركةِ الأفكار وصيرورتِها عبر الزمان. وكلنا يعرف أنَّ أرسطو أعاد اكتشافَه الغربُ عبر ترجمات ابن رشد. وهكذا صارت الترجماتُ من مختلف اللغات رافدًا أساسياً يغذّي شجرةَ الحضارات، ويجعل الأفكارَ الكبرى عصيةً على النسيان. الترجمةُ أشدُّ وطأةً من التأليف. أنا مؤلفٌ ومترجم، وعلى الرغم من أنَّ الكتابةَ تتعبني، لكن الترجمةَ تنهكني بل تعذّبني أحيانًا، لذلك هجرتها منذ أكثر من
عشرين عامًا. ذلك أنَّ الترجمةَ ضربٌ من امتحان الضمير الأخلاقي للمترجم، إنْ كان كلام المؤلف ليس منطقيًا، أو لا يتفق مع معتقد المترجم وثقافته. كنت أتردد في ترجمةِ مفاهيمَ لا أرى صوابَها، وعباراتٍ لا أقتنع بمضمونها، فأنزعج وأتردّد في نقلها للقارئ العربي.
الترجمةُ موردُ رزقٍ لكثيرٍ من المترجمين، وقيمةُ الجائزةِ الماديةِ تسهم في دعمِ المترجم وحمايتِه من ترجمة كتابات لا تستحق الترجمة، وربما تضطرّه أحوالُه المعيشيةُ فيتورط بترجمتها. أعرف مؤلفين ومترجمين مبدعين اضطرتهم أحوالُهم المعيشيةُ أن ينقلوا بعضَ الكتابات الهامشية من لغات أخرى للغة العربية، ولو كتبوا في الموضوعات نفسِها لتفوّقت كتاباتُهم على ما ترجموه كثيرًا. قيمةُ الجائزة الماديةُ تساعد في طردِ الأعمال الهامشية، وتجعل المترجمَ أكثرَ حذرًا في اختياراته، ودقةً في عمله.
جائزةُ الترجمة علامةٌ ثقافيةٌ مضيئةٌ تكشف للقراء عن الهويةِ المعرفية للمترجم وتعلن عن أعمالِه التي تستحق التبجيلَ والحضورَ الأبدي في
المكتبة العربية. كثيرًا ما نقرأ ترجماتٍ عديدةً ملتبسةً مشوشة، تُغرِق القارئَ بفائضٍ لفظي من دون أن تفيد معنى واضحًا، ومن مكاسب هذه الجائزة أنها عملت على إشهار المترجمين المحترفين والكشف عن أعمالِهم الجادة، وحاصرت إلى حدٍ ما حضورَ الترجمات الرديئة المتفشية
بالعربية اليوم.
*مقتبس من كلمتي باسم الضيوف العرب في حفل منح جائزة الترجمة والإنجاز والتفاهم الدولي، في: "مؤتمر الترجمة واشكالات المثاقفة"، المنعقد في الدوحة بقطر، 11 و12 ديسمبر 2018.