البحر الأحمر.. الممر السياسي!

آراء 2018/12/15
...

عبدالامير المجر 
 
من يقرأ التاريخ السياسي المعاصر للدول المطلة على البحر الأحمر، يتوقف كثيراً عند مشاكل عديدة، تعقدت أكثر في مرحلة الحرب الباردة، إذ سعى كلا المعسكرين الى استقطاب ما يمكنهما من الدول، ما تسبب لها بحروب داخلية وخارجية، جعلتها متعادية باستمرار ومشلولة، سياسياً واقتصادياً. وفي قراءة سريعة للتاريخ، نجد أنَّ اثيوبيا، مثلاً، في عهد الامبراطور هيلاسي لاسي، كانت قريبة من المعسكر الغربي، وتقمع القوى التحررية اليسارية، سواء من أبناء تلك التي تحت هيمنتها ويطالبون بالاستقلال، وتحديداً الاريتيريين والصوماليين، أو اليسار الاثيوبي نفسه.
والصومال هي الأخرى، تتغير بوصلتها السياسية يميناً ويساراً، تبعاً لتغير النظام السياسي في غريمتها اثيوبيا، التي دخلت معها في صراع طويل على إقليم أوغادين. فنظام محمد سياد بري، رفع شعار اليسار ليحصل على دعم المعسكر الاشتراكي في مواجهة الامبراطور الاثيوبي، وحين أطاح اليساريون بالامبراطور، وجاء الماركسي منغستو هيلا مريام الى السلطة، تحوّل سياد بري الى الغرب! والأمر لا يختلف كثيراً مع السودان الذي ظل يعاني من مشكلة الجنوب التي أريد لها ألا تحل إلاّ بتقسيم السودان، بعد رحلة صراع مضنية، ما زالت آثارها قائمة. ولم تكن العلاقة على ما يرام بين ضفتي البحر، فجزيرة حنيش اليمنية الواقعة في البحر الأحمر، تعرضت الى هجوم أريتيري في العام 1995 قبل أن يسوى النزاع لاحقاً. ومصر والسودان ما زال الخلاف بينهما قائماً على عائدية منطقة حلايب. وعلى الرغم من حسم الخلاف المصري السعودي على عائدية جزيرتي تيران وصنافير، إلاّ أن هناك أصواتاً مصرية معارضة لذلك وتعمل على إثارة الخلاف بين الحين والآخر.. الأهم من كل هذا بالنسبة للعرب، هو ان إسرائيل، لها موقع على البحر الأحمر، ولعلَّ السبب المباشر لحرب العام 1967 كان غلق عبدالناصر لمضيق تيران عندما كان تحت السيادة المصرية وقتذاك، أي غلق خليج العقبة.. لكنَّ إسرائيل التي تدرك أهمية البحر الأحمر لأمنها الستراتيجي لم تنتظر طويلاً، لتكون مؤثرة فيه، وإنما سارعت ومنذ قيامها الى التحرك نحوه، وكان لها الدور الرئيس في التغييرات السياسية في اثيوبيا واريتيريا ولم تكن يدها بعيدة عن جنوب السودان، الذي سعت الى فصله ونجحت، لتؤكد حضورها المؤثر في منطقة حوض النيل والقرن الافريقي... في العموم، أيقنت تلك الدول اليوم، أنَّ المكوث في الماضي، يعني تعطل الحياة، ولا بدَّ من مقاربة جديدة للأوضاع، وهكذا شهدنا طي الخلاف الاثيوبي مع اريتيريا والصومال، برعاية إماراتية، لربما أتت في سياق سعي الخليجيين، لتأمين ظهرهم الافريقي، كمقدمة لمقاربة جديدة، قد تجعل جميع الدول المشاطئة للبحر الأحمر في واقع سياسي وامني جديد.
مؤخراً، دعت المملكة العربية السعودية الى إقامة تجمع لدول البحر الأحمر والقرن الافريقي، يضم كلاً من السعودية ومصر والأردن والسودان واليمن والصومال وجيبوتي، وقد عقد الاجتماع الأول لوزراء خارجية الدول الأعضاء في الرياض. يأتي هذا التجمع في مرحلة يمكن وصفها بالبرزخية، فالسعودية التي يبدو أنها طوت مرحلة حرب اليمن، تعمل على ترتيب أوضاع دول حوض البحر الأحمر، بما يجعلها على رؤية موحدة في مسألة أمن هذا الممر الدولي المهم، بعد أنْ زالت الخلافات العقائدية وبات الاستقطاب الدولي يقوم على المصالح والمطالح معاً... لا شك أنَّ السعودية تريد من خلال هذا التجمع أيضاً، قطع الطريق على إيران التي حققت حضوراً واضحاً في أكثر من منطقة هناك، لا سيما في اليمن والجانب الغربي من البحر، ما يعني أنَّ السعودية تسعى لخلق منظومة أمن ستراتيجي، تسهم في صياغتها دول البحر الأحمر، ومن ثم يكون هذا التجمع مدخلاً لتعاون اقتصادي لربط دول تلك المنطقة ببعضها، وخلق محور أمني وعسكري تكون السعودية ومصر نواته.
غير صحيح القول، إنَّ هكذا تجمعات تأتي بالضرورة على حساب تصور عربي مشترك لأمنهم القومي، لأنَّ العرب لهم جيران كثر، وتربطهم بهم مصالح مشتركة عديدة، لكنَّ الواجب والمفترض، أنْ تكون هناك ستراتيجية أمنية واقتصادية عربية، ولو في الحدود الدنيا، تجنب شعوبهم ويلات ما مروا به بسبب خلافات الأنظمة وتوزعها بين القوى الدولية والإقليمية.. والمؤسف إنَّ هذا الحلم بات بعيداً اليوم.. الشرق العربي ممثلاً بالعراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، يمكن أنْ يكون محوراً عربياً داخل المنظومة العربية وليس ضدها أو على حسابها. محور اقتصادي وأمني، يركز على مسائل المياه والكهرباء والتبادل التجاري والسياحة وغيرها، ويرسم تصوراً مشتركاً للمستقبل، فما الذي يقف وراء تعطيل أية مبادرة بهذا الاتجاه، مع أنها مطروحة منذ سنين ويتحدث عنها المثقفون والساسة معاً، كما الشعوب؟.. الاتحاد المغاربي الذي تضرر بسبب الخلاف المغربي الجزائري على مستقبل الصحراء الغربية، لم يكن على حساب الجامعة العربية ومشروعها (إنْ كان لها مشروع حقيقي!) ودول الخليج هي الأخرى اتحدت بمجلس جعلها أقرب لبعضها، وان عصف به الخلاف الأخير مع قطر، أو يكاد، لكنه كمشروع إقليمي، كان ناجحاً.. عمق الخلافات بين الأنظمة لا يعدم وجود أسس ثقافيَّة واقتصاديَّة لتفاهم عربي ممكن، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!