الإعلام المتخصص يشمل مجالات عدة، من بينها(الإعلام الصحي) الذي يعنى بنشر التوعية الصحية وتوفيرالمعلومات الطبية والدوائية والوقائية، من خلال مصادر رصينة ومؤسسات علمية موثوقة، بطرق مبسطة ومفهومة من قبل المتخصصين والأشخاص العاديين، وضرورة مراعاة العادات والتقاليد الاجتماعية والعمل على تحسينها وتطويرها، ضمن مفهوم التنمية الشاملة.
وفي هذا الصدد يروي الباحث الإعلامي المعروف ولبر شرام في كتابه (وسائل الإعلام والتنمية الوطنية) حكاية طريفة ذات مغزى حول العلاقة بين وسائل الإعلام وتوعية المجتمع، فيقول إنّ أحد الإعلاميين قام بإنتاج فيلم سينمائي توعوي صحي حول مرض (الملاريا) الذي ينقله البعوض عادة، وذلك خلال منتصف القرن الماضي، وقام بعرض شريطه في إحدى القرى الإفريقية التي تعاني من ويلات الأمراض الوبائية المتنقلة، ثم سأل الحاضرين، وأغلبهم من الفلاحين الأمّيين، حول تعليقهم على ما شاهدوه وما فهموه من ذلك الشريط الصحي، فقال أحدهم: الحمد لله إنّ البعوض الأميركي الكبير، الذي شاهدناه بحجم البقرة في الفيلم، لا يوجد في بلادنا الإفريقية!
وقد أيّد كلامه جميع الحاضرين، وسط ذهول ذلك الإعلامي الذي كان قد عمد في الشريط إلى تكبير صورة البعوضة (زوم) من أجل التوضيح فقط، في حين عجز المشاهدون عن فهم الرسالة الإعلامية ولم يدركوا هدفها، نتيجة حواجز العادات السائدة في تلك البيئة الاجتماعية ومستوى الوعي
العام!
أزمة فيروس كورونا التي أصبحت قضية عالمية، وقد شغلت وسائل الإعلام كافة، كشفت عن ضعف النظام الصحي في كثير من الدول، ولعل من أبرز ثغراته عدم وجود برامج إعلامية صحية جماهيرية توعوية تعمل بالتكامل والتنسيق مع المؤسسات الصحية، وأظهرت الأزمة الحاجة الملحّة إلى التوعية الصحية وضرورة نشر الثقافة الطبية والعلاجية والوقائية التي ينبغي أن تديرها كوادر علمية وصحية وإعلامية
متخصصة.
في عصر المعلومات يفترض أن تكون المعلومات لدى الإنسان مثل الهواء والغذاء، وقد تتقدم عليهما
أحياناً.
وفي المجال الصحي فإنّ المعلومات أصبحت قضية حياة أو موت، وإنّ توفير المعلومات الصحية لعامة الناس، عبر وسائل الإعلام الجديدة، لا يقل أهمية عن توفير المستشفيات
والعلاجات.
ولا شك أنّ اعتماد الشائعات ونقص المعلومات وانتشار مقرات الدجل والشعوذة، قد يسهم في تفاقم الأزمات وتعقيدها، ولتكن تجربة الأزمة الأخيرة حول انتشار فيروس كورونا درساً وعبرة، بعد انتقاله من الصين ومروره عبر بلدان عدة، فقد رافقت هذه الأزمة الكثير من الشائعات والمعلومات الخاطئة، وتحولت التغطية الإعلامية إلى حرب نفسية ورعب صحي عالمي، يكاد يفوق في خطورته مضار الفيروسات نفسها، ويمكن أن نشير إلى بعض المحاور التي يجب أن تشملها التوعية
الصحية:
1 - الإعلام الطبي المتخصص الموجّه للأطباء والكوادر الصحية حول تحديث المعلومات الطبية والإطلاع على نتائج البحوث والمؤتمرات والندوات، فالطبيب الذي حصل على شهادة التخصص من إحدى الجامعات، منذ سنوات، يظل بحاجة مستمرة لمتابعة التطورات وتحديث المعلومات ومعرفة الأجهزة والمخترعات والقوائم الدوائية المرتبطة بتخصصه الدقيق، كما ينبغي أن يكون الطبيب في عصر التواصل الاجتماعي الألكتروني مشاركاً نشيطاً في الحوارات المفيدة مع زملائه، وأن لا يتردد في السؤال والاستفسار والاستزادة في العلم من مصادره الرصينة، من أجل إنقاذ حياة الناس وتخفيف آلامهم!
2 - الإعلام الطبي الاجتماعي الذي يسعى إلى توعية الإسرة، عبر برامج يتحدث فيها الأطباء، في الأغلب، حول العادات الصحية الرشيدة، وتحسين مستوى الحياة، والإسعافات الأولية عند الحوادث الطارئة، وكيفية الوقاية من الميكروبات والفيروسات وتقليل مخاطرها، والشروط الصحية والبيئية السليمة التي ينبغي توفرها في الغذاء والسكن والعمل، وتحديد الفئات الاجتماعية ذات الأسبقية الخاصة التي تشملها برامج التوعية مثل ذوي الإعاقة والحاجات الخاصة والنساء الحوامل وأصحاب الأمراض المزمنة مثل السكري والضغط والسرطان، وكل هذه الموضوعات يجب أن تعتمد وفق خطط مدروسة وإحصائيات وبيانات
دقيقة.
3 ــ تفعيل جهاز إعلامي شبكي تفاعلي مرتبط بالمؤسسة الصحية، مثل إصدار الصحف والمجلات الطبية والإذاعات والقنوات التلفازية المتخصصة، فضلاً عن تخصيص مساحات لبرامج التوعية الصحية في القنوات العامة، والعمل على كسب اهتمام الجمهور العام، المستفيد الأول والأخير من هذه النشاطات، عبر المشاركة في البرامج وفتح قنوات التواصل بين الطبيب والمواطن، وزيادة الثقة بينهما. وفي هذا الخصوص لا يفوتني أن أشير إلى تجربتي إذاعة وزارة الصحة العراقية وشبكة الإعلام الصحي اللتين يمكن أن تشكلان نواةً لجهاز إعلامي صحي متطور لو توفرت الإدارة المقتدرة والكوادر المتخصصة والميزانية المالية المناسبة. ومن المؤكد أنّ الإنفاق على التوعية والإعلام الصحي سوف يسهم في تعزيز القطاع الصحي، وربما يغني عن الكثير من المبالغ المصروفة على العلاج والدواء فضلاً عن إنقاذ حياة الملايين من الناس.
الحياة هي الأثمن والحفاظ عليها هو الأهم، وتلك رسالة الإعلام الصحي التي ينبغي أن تحظى بالدعم من أصحاب القرار عبر تشريعات ومؤسسات ومخططات فاعلة.