عبد الأمير المجر
تتوقف السيارة عند التقاطع أو في الزحام، فيفاجأ سائقها بصبي أو صبية في عمر الدراسة الابتدائية، يهب باتجاه الزجاجة الامامية، يدلق الماء من بخاخ يحمله، مصحوباً برغوة الصابون، ثم يبدأ بقشطه، ويحرص أنْ يكون أداؤه جيداً، كي يحصل من السائق على مكافأة تناسب جهده الذي لم يكن السائق قد كلفه به أصلاً،
وربما جفل أول الأمر وهو يرى الصغير وقد هوى بجسده أمام سيارته، لكنَّ تكرار المشهد جعله مألوفاً للسائقين وللركاب الذين لا يملكون سوى التأفف من الواقع الاقتصادي المزري الذي يدفع بهؤلاء الصغار لممارسة هذا النوع المبتكر من التسوّل الخطير..
نعم، هذا المشهد الذي أخذ بالاتساع في العاصمة بغداد، صار يحرج العراقيين، لا سيما حين يكون هناك أجنبي يراقب وربما
يصور.
قبل سنين كتبت مادة بعنوان (الشحاذون.. الإرهاب الثالث) أي انه يضاف الى إرهاب السلاح بمختلف مشتقاته التكفيريَّة وغيرها، وإرهاب الفساد الذي قوّض أسس الدول ونخرها ودفع بالناس الى الشوارع تصرخ مطالبة بالوطن والحياة.. الإرهاب الذي نحن بصدده يتمثلُ بأشكالٍ مختلفة، لا تتوقف عند الصبية الذين بدأنا بحكايتهم هذه السطور، بل أيضاً بالأطفال الرضّع الذين نجدهم في أحضان بعض المتسولات أو أمامهن على الأرصفة مخدّرين من دون شك، لكي يبدوا نائمين، بحضائن شبه بالية ليستعطفن بهم المارة.
هؤلاء الأطفال مسروقون بالتأكيد، لأنَّ أماً حقيقيَّة لا يمكن لقلبها أنْ يتحمل عرض ابنها تحت حرّ الصيف وقرّ الشتاء في الشارع لتحصل من خلاله على المال، وهؤلاء الرضع لا يتحملون هذا القدر من الضغط والعذاب فيموتون حتماً بعد مدة، ولا بدَّ من غيرهم، وهكذا تستمر دورة الخراب الاجتماعي، وأمام أنظار أجهزة الدولة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها من دون أنْ تتدخل لإيقاف هذه اللعبة المرعبة التي تدمي القلوب.. لقد تفننت المافيات التي انتشرت في البلاد نتيجة ضعف مراقبة مؤسسات الدولة وغياب التنسيق بينها، ولعلَّ هذه الحلقة من الفساد هي الأخطر، لأنها ستخرّج أجيالاً من المجرمين، ممن حرموا من أبسط حقوقهم في الحياة، فلا تعليم يحصنهم ولا رادع أسرياً أو اجتماعياً يمنعهم عن ارتكاب الجرائم، حين يكونون في أعمار تمكنهم من القيام بها، كونهم تسلحوا بكل الأسباب التي تدفعهم للإجرام مستقبلاً.. غياب التكامل المؤسسي يعدم فرصة الحل للكثير من المشكلات، فعندما كانت الصحافة تكتب، تجد صداها في مكاتب المسؤولين، وزراء أو غيرهم، أو تكون سبباً في إقامة الندوات والحلقات النقاشيَّة، وهذا ما جعل الصحافة تكتسب تسمية السلطة الرابعة، وهي فعلاً سلطة حقيقيَّة ومؤثرة، حين تعمل في سياق دولة مؤسسات هدفها خدمة الشعب والتعبير عن تطلعاته، وهو ما نفتقده اليوم، لأنَّ ما كتب بهذا الصدد كثيرٌ جداً، والتحذيرات من خطورة هذه الظواهر تراكمت، لكن في الأدراج وارشيف الصحف، تطمئن تحت طبقات من غبار، بعد أنْ نسيت وتجاهلها المسؤولون، حتى يئس الكتاب والصحفيون من إمكانية وصول صوتهم، وتفاقمت من حولهم المشكلات المتوالدة.. لقد بات الأمر لا يحتمل والمناظر القاسية صارت تحاصر العراقي بشكل يومي وفي كل زاوية يتحرك فيها، بدءاً من انعدام نظافة الشوارع ومروراً بالازدحامات المروريَّة التي حطّمت أعصاب الناس، وصولاً الى ما أشرنا إليه من إرهاب مستجد، إرهاب التسول الذي تفننت به مافيات يبدو أنها محميّة وتعمل بتنسيقٍ عالٍ، وهذا يحيلنا الى تكاملٍ مؤسسي من نوعٍ جديد، نوع أنتجه واقع سياسي هش، صار يستفرخ أشكالاً متعددة للخراب.. فهل من
مستجيب؟!