إبراهيم سبتي
كل البلدان تفتخر بودائعها إن كانت مدفونة في باطن الأرض كالثروات الطبيعية، أو فوقها كالآثار والبنى التحتية الماثلة. في العراق، الودائع هائلة، لا تغطيها العين ولا يحدها البصر، كثيرة ووفيرة. لكن من ينقذها من الزوال والاختفاء واللامبالاة؟ إنه سؤال جوهري ويحتاج إلى إجابات وليس إلى إجابة واحدة، فالبيوت التراثية التي صنفتها وزارة الثقافة على لائحة الاهتمام ويمنع إزالتها وبناء مكانها أبنية جديدة، هذا القرار القديم ظل حائط صد أمام من يحاول العبث بمقدرات التراث والاستفادة منه تجاريا.
إنّ بيوت الشناشيل والمطرزات والزخارف الخشبية التي ظلت تصارع الزمن من أجل أن تبقى شاهدة على مراحل وحقب، حريّ أن تفيد البلد بإثراء القائمة الأثرية والاستفادة منها سياحيا.
كان شارع الرشيد يمثل إرثا بغداديا وطرازا معماريا مدهشا ويمثل أحد معالم مدينة بغداد وأحّد العناوين العراقية البارزة والمهمة، يعاني الإهمال وتكدس النفايات.
أعتقد أنّ المسؤول عن الشارع عليه أن يطلب العون من كل الأطراف التي يهمها تجديده وإعادة رونقه كما هي الحال في بعض البيوت الأثرية والتراثية التي صمدت بوجه التغييرات ورغبات الهدم ومضاربات التجارة. إنّها الرموز الوطنية التي نفتخر بها كما تفتخر البلدان الأخرى التي ربما لا تمتلك ما نمتلكه من مواقع كثيرة وتراثية أصيلة. إنّ هذه المواقع هي نقطة متحركة في صفحة التطور والتخطيط الإداري الذي يمد البلاد بالموارد السياحية والاستفادة منها بالدراسات والبحوث لمعرفة ما خلف تلك المواقع من تاريخ حي.
التاريخ يحب من يحافظ عليه كما يحافظ الشخص على أولاده، وهو الناطق الذي لا يرحم من يهمله ويعطيه ظهره. زرت أحد البلدان وتعجبت من قلة مواقعهم السياحية فلجؤوا إلى بناء بعض الأماكن كمتحف الشمع مثلا، وهو مكان ثماثيل لشخصيات من مختلف الدول معمولة من مادة الشمع، وكان الدخول له لقاء بعض المال يدر عليهم أرباحا يستفاد منها في تنمية قطاعات أخرى.
إنّه الحرص الإيجابي الذي يندرج ضمن الحرص الوطني الفاعل في خدمة التراث والحضارة والتاريخ. نحن نستلهم كل مرئياتنا ونحاول عقد مقارنة بينها وبين ما موجود عندنا من أثر حضاري، سنجد أنّ العراق يمتلك صروحاً أثرية وحضارية لا تمتلكها أغلب الدول السياحية التي تعتمد على آثارها المتبقية وتفتخر بها.
إنّ مسؤولية الحفاظ على الأثر، مسؤولية مشتركة ومراعاتها من واجب الجميع، ولا يمكن أن تكون دائرة معينة أو وزارة تعتذر عن هذه المسؤولية بأيّة حجة لأنّها ليست سلعة زائلة أو بناءً حديثا يحتاج إلى تأهيل. إنّ بيوت الشناشيل أمكنة تمنحنا فضاءات من المتعة والتخيل واستعادات لتاريخ ظل محفوظا بها ومدوّنا على زخارفها وأخشابها وطابوقها المفخور من تعب وأمنيات وجهود لا تقدر بقيمة مادية مهما تكون أرقامها.
أعتقد أنّ العراق بما يحويه من بيوت وأثر تراثي وتاريخي يستحق التعامل بتراثه بأهمية بالغة، فضلا عن الأثر الحضاري الباقي والذي شكلت الحضارات القديمة رمزيتها وعلامات دلالة عنفوانها. ولأنّ منظر الشناشيل التراثية إن كان في شارع الرشيد أو في البيوت المتوزعة في المدن العراقية، فهي تمثل تاريخا ليس بعيدا كما الآثار الكبيرة، لكنها توحي بدلالة رمزية وعناوين لإيقونات لا يمكن استعادتها ثانية إن خسرناها.
وأعتقد أن كل أثر ثراثي مهما كان صغيرا هو تاريخ حقب وأجيال مرت بالعراق وشكلت رمزا ماثلا في حركة التطور الاجتماعي والإنساني لكل حقبة وهي ما تشكل قفزة في سلّم الاهتمام الذي تركه الأجداد كوديعة علينا التعامل معها بحرص ووطنية.