هل بدأ توطين علم الجهل وصناعة التجهيل في العراق؟

آراء 2020/03/09
...

د. قيس العزاوي
يشير مشهد الانسداد السياسي الحالي إلى حقيقة أننا بدأنا نشهد الخطوات الأولى لتوطين علم الجهل وصناعة التجهيل في العراق، والتوطين على عكس المرحلة الانتقالية، وأبرز صوره الكارثية على العرب توطين الصهيونية في فلسطين، فما اعتبرناه انتقالياً منذ بدء احتلال العراق، العام 2003، أصبح مترسخاً في التنظير والتطبيق السياسي على أرض الواقع. 
  وتوطين الجهل في العراق يتجسد في صور عدة منها: الإبقاء على المحاصصة الإثنية والطائفية في الحكومة والإدارات، وعلى "الديمقراطية التوافقية" رغم فشلها، وتقسيم المجتمع العراقي الواحد إلى مكونات وأحزاب وجماعات هذه المكونات وامتداداتها الإقليمية، وتراجع الأنظمة التربوية والتعليمية والصحية والخدماتية، وإشاعة الفساد في كل مرافق الدولة والمجتمع. 
كل تلك الكوارث التي فكّكت الوطن العراقي ومزقت هويته هي من نتاجات ثقافة علم الجهل والتجهيل الذي بدأ 
يتوطن.
    لقد سبق أن حذّرنا على صفحات "الصباح" من صناعة التجهيل في العراق ونحذر اليوم من توطينها بطريقة علمية راسخة. فعلم الجهل Agnotologie، حسب موسوعة يونفيرسال الفرنسية، يعود إلى القرن التاسع عشر إذ تعايشت نظرية الجهل بجوار نظرية المعرفة، وقد زاد الاهتمام بعلم الجهل وهندسة التجهيل في القرن العشرين وبالتحديد العام 1992، عندما وضع روبرت بركتور، أستاذ تاريخ العلوم في جامعة ستانفورد، بكاليفورنيا، أسسه 
العلمية. 
وقد باتت طرق التجهيل وصناعة الجهل ونشره تتم بأسلوب علمي ومنهج رصين يبنى على: إشاعة الخوف وإثارة الشكوك وازدراء القيم وصناعة الحيرة.
 وقد تولت وزارة الدفاع الأميركية رعاية "علماء الجهل" وتطوير أبحاثهم بتطبيقها على مجموعة من الشركات الكبرى، وبخاصة شركات التبغ، ومن ثم بدأت تطبيقات تجهيل مخطط على مجموعة من الدول كان العراق أكثرها نجاحاً إذ ابتدع في البنتاغون قسم يضم علماء نفس وخبراء في السلوك بإدارةِ الفهمِ في لجان "العلاقات 
العامة". 
ومنذ الأيام الأولى لاحتلال العراق طبقت "لجنة الإعلام الأمني" استراتيجية نَشْر المعلومات وحذفها أو تغييرها بِهَدَفِ التأثيرِ على تفكيرِ الجمهورِ، وللحصولِ على النتائج المرجوة. لقد جرت عمليات واسعة لتضليل الرأي العام نفذتها لجان "العلاقاتِ 
العامةِ".    دعونا نحتكم الى مقومات العقل بدل الجهل: كيف ارتضينا ونحن أبناء حضارة الرافدين بالقرار الأميركي لتقسيم السلطة في العراق وفقاً للمحاصصة الإثنية والدينية والطائفية؟ أوليس هذا نظام ما قبل الدولة، لماذا يطبق الأميركان في بلادهم نظام الدولة الحديثة بسلطاتها الثلاث وسيادتها الوطنية ويفرضون علينا نظام العصور الوسطى؟ ألم يسأل سياسي عراقي واحد مثل هذا السؤال، أم أنّنا وقعنا بالفعل في فخ 
التجهيل؟ 
لماذا قامت أميركا بتقوية قدرات من احتلته سابقاً مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية واعتبرته "شريكا وحليفا" وحطمت تماما القدرات العراقية من خلال إضعاف الدولة والسماح (أثناء احتلالها) بتأسيس الفصائل المسلحة وهي تعرف جيدا أنّها ستكون بديلا للدولة وسوف تحرمها من 
سيادتها.  ولماذا فرضت علينا "الديمقراطية التوافقية" التي تفرغ أيّة انتخابات تجريها من محتواها إذ هي تفرض بالنتيجة توافقية سياسية تحاصصية تلغي منطق حكم الأغلبية السياسية وهل تفعل هي ذلك في بلدها؟ 
ولماذا وافقت الجماعة العراقية على ذلك وعملت به وما زالت تحتكم لمنطقه؟ هل هي تجهل أو تتجاهل أم أنّها وقعت في 
الفخ؟
     من أُولى خطوات الدعم الأميركية للحلفاء استناداً الى وكالة أبحاث الكونغرس هي "بناء قدرات الشريك" لمواجهة التحديات الأمنية الداخلية والإقليمية، وتخفيف حدة النزاع، وبناء الروابط المؤسسية والشخصية لتشييد التحالف، فهل حدث ذلك في 
العراق؟ 
حدث العكس إذ شجعت الإدارة الأميركية الأطراف المسلحة على الاقتتال وتوتير الأمن، كما شجعت على الفساد والكسب غير المشروع لدى الشريك، وقامت هي بسرقات في كل الميادين من الآثار إلى احتكار الشركات الأميركية لقضايا الأمن والاستحواذ على حصة من جميع الصفقات وأموال ما سمي بإعادة الإعمار، وهو ما يخالف ما ادّعوه بالشروط المُسبقة للحوكمة الشرعية الفعالة الخالية من الفساد!
   لو كانت الإدارة الأميركية حريصة بالفعل على عدم انتشار الفساد لقامت على الفور بتجميد الأموال المهرّبة إلى بلدها وإلى دول الحلفاء الغربيين، فلماذا لا نعقل 
ذلك؟ 
والفساد هو سبب الانتفاضات الشعبية وهو ما تشهده الساحة السياسية العراقية منذ أشهر إذ تحولت الحركة الاحتجاجية الجماهيرية إلى مشهد سياسي اجتماعي يومي يفرض نفسه على حاضر الأوضاع في العراق ومستقبلها. وكما هو معلن ومعروف فالهدف هو التخلص من الطبقة الفاسدة والمفسدة وتجاوز المحن التي خلفها الاحتلال وباتت وباءً على الفضاء السياسي العراقي الذي أصبح صريع المحبسين وضحية 
النفوذين.
  لقد مزقت هندسة الجهل والتجهيل وحدة العراق فأصبح أقاليم، ومزقت وحدة الهوية الوطنية فأصبحت هويات، ووحدة السلطة فأصبحت سلطات، ووحدة القوات الأمنية والعسكرية فأصبحت بفعل الدستور تخضع للتوازن القومي والطائفي، ومزقت المجتمع الواحد فأصبح مكونات، وتخلفنا في كل الميادين، فما الذي بقي من عراقنا الحبيب بعد توطين الجهل؟