تأسيسان للدولة العراقية فماذا عن التأسيس المقبل؟(1-2)

آراء 2020/03/10
...

عبد الحليم الرهيمي
 
في سياق تحليل ما وصلت إليه تطورات الأحداث في العراق، والأزمات المعبرة عنها، تواصل حركة الاحتجاجات الشعبية المعارضة للطبقة السياسية الحاكمة وأزمة تشكيل الحكومة والأزمة الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وغيرها من أزمات، أشار عدد من الكتاب إلى بعض الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع وأزماته. 
فبينما اعتبر أحد هؤلاء الكتاب أنّ السبب الرئيس لكل ذلك هو (التأسيس الخاطئ) للعملية السياسية، اعتبر كاتب آخر أنّ هذا الوضع وأزماته يعود إلى (أخطاء وعيوب) ذلك التأسيس و (انشغال) من بيدهم الأمور آنذاك بإقامة السلطة أو الحكومة وليس بناء الدولة! فهل حقاً أنّ ما آلت إليه الأوضاع من أزمات حادة ومشكلات وأخطار تختصر بتلك الأسباب وترمى بظهر آليات التأسيس وعيوبه وأخطائه فتعفي بذلك من المسؤولية الطبقة السياسية التي تحكمت بمسار العملية السياسية منذ التأسيس وحتى الآن، واتّسمت بالعجز والفشل وافتقاد النزاهة، فضلاً عن تأثير وتحكم عوامل إقليمية ودولية بذلك المسار؟
لا شك أنّ هذه الآراء تقفز على الأسباب الحقيقية والفعلية الأساسية المسببة فعلاً لما آلت إليه الأوضاع، بدءاً من حدث التحرير والتغيير الكبير في نيسان 2003 ودخول العراق مرحلة تاريخية جديدة. والواقع أنّ حدث التحرير والتغيير الذي حصل في ذلك التاريخ وأطاح بنظام صدام الدكتاتوري القمعي قد أطاح في الوقت ذاته بالدولة العراقية الحديثة التي تأسست العام 1921، ونمت وتطورت في العقود الثمانية التالية. غير أنّ هذه الإطاحة بالدولة، وبتعبير أدق، إذ أطاحت وحلت بعض المؤسسات الأمنية القمعية ومؤسسات أخرى تخدم النظام السائد آنذاك، فقد أطاحت في الوقت ذاته بمؤسسات وأجهزة ودوائر وأنظمة عريقة ما كان ينبغي المساس بها، كمؤسسة الجيش والقوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات الوطنية وغيرها من المؤسسات الثقافية والعلمية التي يرتكز عليها قيام وديمومة الدولة وحمايتها.
لقد حققت العملية السياسية التي بدأ مسارها بعد التحرير والتغيير في نيسان 2003 العديد من الانجازات الأساسية والمهمة لبناء الدولة الجديدة بديلاً عن الدولة التي أطيح بها، إذ لعبت سلطة التحالف الدولي (CPA) الذي كانت تقوده الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك الأمم المتحدة مع شريحة من السياسيين العراقيين الذين تشكلت التنظيمات السياسية لمعظمهم في الخارج، دوراً في تأسيس المرحلتين المؤقتة والانتقالية حتى إقرار دستور 2005 بالاستفتاء العام، إذ وضعت تلك الاجراءات والقرارات، رغم ما شابها من أخطاء ونواقص، العراق على سكة التغيير الحقيقي لبناء دولة ديمقراطية عادلة ودستورية يحكمها القانون والمصالح العليا للعراق وشعبه.
غير أنّ ذلك لم يستمر، فمنذ البدء، وخلال الاستعداد لإجراء انتخاب (الجمعية الوطنية) في 30-1-2005 وفق قانون (إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية)، وقبل إقرار الدستور، بدأت عملية الانحراف عن المسار الوطني الصحيح الذي هدفت إلى تحقيقه عملية التحرير والتغيير باتخاذ الاجراءات والقرارات المناسبة لتحقيق ذلك خلال العامين الأولين بعد التغيير، رغم (البوادر الأولى) للفساد الإداري للطبقة السياسية التي بدأت تمسك زمام الأمور منذ تشكيل (مجلس الحكم) بقرار الحاكم المدني بول بريمر في 12-7-2003. فقد تمثل ذلك بقيام أعضاء مجلس الحكم التسعة الذين اختارهم الأعضاء الآخرون لقيادة الملجس وحدد شهر واحد لكل منهم، فقد جرى استغلال هذا الشهر للقيام بجولات (سياحية) خارج العراق، بينما استغله آخرون للبدء بعقد صفقات تجارية مع تجار تلاحق بعضهم تهم فساد وارتباطهم بمؤسسات وشخوص النظام السابق.
لقد بدأت (لحظة) الفساد المالي والإداري مع ممارسة مجلس الحكم لدوره الذي وجد بعض أعضائه الفرصة المناسبة 
لبدء «مسيرة» الفساد الذي وسم العملية السياسية في السنوات التالية بميسمه، وقد ترافق ذلك أيضاً مع بدء عملية تضليل وتزييف كبرى لوعي المواطنين بالشعارات الطائفية والمذهبية خلال الدعوة للانتخابات التي عمد بعضها الى تهديد الناخبين البسطاء بأنّ زوجته ستحرم عليه إن لم يصوت لهذه القائمة الانتخابية من دون غيرها، ثم تطور التضليل والممارسات اللادستورية السيئة بتقديم الرشاوى 
للناخبين. 
لقد أسس معظم الذين تولوا أمور قيادة العملية السياسية للفساد الإداري والمالي والتضليل وعدم الاهتمام لا ببناء الدولة ولا ببناء السلطة أو الحكومة التي هي جزء منها وتكون على شاكلتها ووليدتها.
هكذا بدأ التأسيس الثاني للدولة العراقية بعد 2003، وخلافاً للبدايات الصائبة والناجحة للتأسيس الأول في العام 1921، فكيف سيتحقق التأسيس الثالث الجديد القادم والمطلوب الذي يدعو ويتطلع إليه الشعب العراقي، والذي تعبر عنه الآن حركة الاحتجاجات المطالبة بالتغيير والإصلاح، والمتواصلة منذ الأول من تشرين الأول الماضي؟ هذا ما سنتناوله في القسم الثاني من هذا المقال.