ترسيخ القيم

آراء 2020/03/11
...

حسين الذكر
 
في ظل زحمة الرصيف وخنق الشارع على حساب نظامه المروري والذوقي العام حتى ساده الكثير من المعوقات التي أصبحت جزءاً من تكوينه مما ألحق الأضرار بالطريق برغم صوت نبينا محمد (ص) الذي  يصدح بالتاريخ ونعلمه أطفالنا ونقرأه بمساجدنا وبيوتنا وندواتنا إذ قال: (إزالة الأذى عن طريق المسلمين واجب مقدس)، تلك المقولة الحضارية الثرية بالمعاني والراسمة لخرائط الحياة بجميع تفاصيلها بما  يضمن سلامة المنهج وصالح الناس وحفظ كيان الدولة.
وقد شاهدت فوضى ضاربة في بعض شوارعنا التي غدا حكم شريعة الغاب هو الأكثر انتشارا فيها من غيره
، في ظل ضعف الجهاز الحكومي وسيادة القوى البديلة من قبيل التحزب والتعشر والتخندق بكل أنواعه حتى سادت مقولة شعبية مفادها (إنّ راكب الدراجة صاحب حق داهسا أو مدهوسا)، مع بعدها الشعبي إلّا أنّها تمثل وجها لما آلت إليه حال مجتمعنا في صياغاته وتركيباته وكل التأثيرات الفاعلة لتشويه معالم خريطته وتقسيم قواه وإسقاط هيبة الدولة بشكل ممنهج، ولو عن طريق إشاعة مفاهيم وظواهر غريبة عن تراثنا وعمقنا العربي والإسلامي
، وما ارتص معه من مثاليات أخرى صنعت تاريخه وأسست لعادته وتقاليده بل لنظامه الاجتماعي العام. 
سمعت ما يضحك ويبكي من أحد سواق التكسي الذي بدت عليه علامات الكدح والتعب في سبيل العيش 
الكريم. 
فسألته عمّا به، فقال: (أعمل سائق تكسي برغم عطلاتها وموديلها القديم لكنها تهيّئ لي فرصة عمل تسهم بترتيب أوراقي المعاشية ودفع صرفيات بناتي في الدراسة، فضلا عن عيشتنا اليومية وأجور الكهرباء وإيجار الدار
، وأمور أخرى عديدة تضرب الفقير العراقي المبتلي بالحكومات المتعاقبة، وبينما كنت أوقفها ككل يوم بباب البيت سمعنا جلبة وأصوات
، فتبين أنّ صبية يركبون الدراجات قد اصطدم أحدهم بسيارتي وسقط وكسرت يده، وجيب عمامك والنتيجة كسروا ظهري بديون لا قدرة على سدادها وهموم ودموع لا حد لها) .حدثني أحدهم أيام زمان عن قيمة شيوخ العشائر ودورهم الكبير في ترسيخ القيم الإنسانية والمساهمة الفاعلة في الحراك الاجتماعي وتطوير الوعي بما ينسجم مع الحضارة بمعناها الذي يدور في ترسيخ العدالة الاجتماعية التي من دونها لا يمكن أن تبقى قيمة، أو يستمر نظام وذاك من أبجديات: ( بالعدل تسود الأمم)، وقد ذكر الرجل "رحمه الله": إنّه شاهد شيخا جاء يزور المشاهد المقدسة بالكاظمية ومعه حاشيته وقد ارتمت أمامه امراة غريبة تنتخي به: (يا شيخ، إنّ ابني مظلوم وسيصدر عليه حكم ولا حل لقضيته إلّا عند جلالة الملك)، فتأثر الشيخ بحالها وقال لسائقه ومرافقيه: عودوا بنا إلى القصر الملكي لحل مشكلة هذه المرأة،
 فإنّ إغاثة المظلوم متقدمة على بقية الطقوس، وقضاء حوائج الناس قبل أداء 
العبادات.
 قبل أيام ذكر صديقي خالد أبو زهراء عن دور والده الشيخ والوجيه الاجتماعي الذي كان يصرف كلّ ما عنده من أجل حلّ قضايا الناس من أبناء عشيرته ومنطقته ومن ينتخي به ويسهم بفاعلية لإشاعة الطمأنينة وسيادة الأمن والسلام بين ربوع المجتمع التي تعد من أبجديات تطوره، وقد مرض آخر أيامه فدخل المشفى الذي مات فيه، فقال له الطبيب ملاطفا مطيّبا خاطره: ( هل أنت شيخ جامع أم شيخ عشيرة أم شيخ دراسة أم 
ماذا؟)
 فأجابه الوالد وهو بلحظاته الأخيرة، بطرفة تعلمنا منها الكثير قائلا: (أنا شيخ خسائر)، وحينما ضحكنا واستفسر الطبيب عن ماهية ذاك، أتمّ المرحوم قوله: (إنّه كان يخسر الكثير من أمواله ووقته وصحته وراحته في سبيل حلحلة الأمور التي يمشي ويتوسط بها)، فمن لا يحكم بأمر الله ولصالح العدالة والمجتمع فليس شيخا 
بشيء.