خلية الأزمة.. تحصين المجتمع.. وتحفيز أخلاقيات البناء

آراء 2020/03/31
...

محمد جبير
 
لسنا خارج كوكب الأرض حتى نكون بمنأى عن المتغيّرات الدولية، وإنّما بحكم الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية، صار العراق عرضة للأطماع الدولية، وتنوّعت عليه الاحتلالات لتطوّقه بالتخلف والجهل لكي لا يستعيد دوره الفاعل في الحياة الدولية، ولا أقول في المجتمع الدولي، إذ إنّ الفارق بين الاثنين كبير جدا على مستوى الحضور الإنساني والفكري.

فالسعي للتأثير في الحياة الإنسانية العامة، يعني خلق الأثر الفاعل في الحياة العامة وليس ترك الأثر على المستوى السياسي” الإطاري” الذي تدخل فيه حسابات الأشخاص والمؤسّسات والكيانات والأحزاب بمختلف اتّجاهاتها وتوجّهاتها ما يخدم الفرد أو الأمة.
وشكّلت الدول بصورة عامة خليات لمواجهة الأزمة الطارئة لجائحة كورونا، وهو الإجراء الوقائي لمؤسسات الدولة في إناطة مسؤولية مواجهة الوباء بجهة معلومة تتولّى القيادة والإدارة والتشخيص والمعالجة، بعيدا عن آليات الإدارة والقيادة ما قبل الازمة، التي كانت تخضع إلى قواعد بيروقراطية قد تعرقل أو تعطّل أو تؤخّر اتّخاذ القرار في الوقت المناسب، على أن تقوم تلك المؤسسات بمساعدة خلية الأزمة على مستوى تنفيذ قرارات الأزمة وتذليل الصعوبات.
وتشكّلت في العراق خلية أزمة أنيطت مسؤوليتها بوزارة الصحة وترأسها وزير الصحة، واتّخذت قرارات على مستوى حماية الفرد العراقي وتحصينه من هذا الوباء والحدّ من انتشاره في وقت مبكر، واستصرخت خلية الأزمة كلّ مؤسسات الدولة في وقت مبكر إلى اتّخاذ قرارات تنفيذية رادعة للحدّ من انتشار هذا الوباء في العراق، إلّا أنّ تلك الصرخات ذهبت أدراج الرياح” كما يقال”، لأنّ هناك صراع إرادات ولوي أذرع ومصالح حزبية وشخصية داخلية وخارجية عطّلت أو تسبّبت بتأخير تطبيق تلك الإجراءات، لاسيما في غلق المنافذ الحدودية أو في التخصيصات المالية لتلبية احتياجات القطاع الصحي، فقد أعلن مراراً وتكراراً رئيس خلية الأزمة طلبه بتخصيص(5 ) ملايين دولار لتمشية بعض الأمور الصحية، ولم تسمع الحكومة الاتحادية دعوات محافظ النجف في بداية الأزمة في غلق مطار النجف بوجه الرحلات القادمة للحدّ من انتشار الوباء، حتى صارت المحافظة ثاني محافظة في عدد الإصابات.
لا نريد أن نعيد تلك التفاصيل إلى الأذهان، لأننا لا نريد أن نقف عند ما مضى كأنّنا نبكي أطلال جهلنا ولا مبالاتنا في الحفاظ على صحة المجتمع، تعطّلت مؤسّسات الدولة، لاسيما تلك التي كانت تبتلع ثلثَي موازنات الدولة تحت أبواب النثرية والخدمات العامة وتمنح القطاع الصحي النزر اليسير منها الذي يدفع العجلة اليومية للعمل من دون أن يوفّر المستلزمات العامة والخاصّة للخدمة الصحية، وعدم احترام هذه المهنة الإنسانية، وإنّما تمادى المجتمع في التجاوز على ملاكات هذه المهنة وأسهم الإعلام المحلي وقرارات وزارة الصحة في أوقات سابقة لانتشار هذه الظاهرة” التجاوز” من دون رادع قانوني أو أخلاقي، وإنّما على العكس ذهبت بعض التشريعات إلى تجريم بعض الأطبّاء.
وضعت خلية الأزمة المركزية أو الفرعية في المحافظات وجهاً لوجه أمام أزمة” كورونا”، وتخلّف الوضع الصحي والجهل المجتمعي في الحفاظ على الصحة العامة في الحدّ من تفشّي الأوبئة، فقد كان من أخطر ما واجهته خلية الأزمة في هذا الظرف الصعب والمصيري هو الحدّ من التجمعات المناسباتية، سواء كانت دينية أو اجتماعية، فقد كان بالإمكان السيطرة أو الحدّ من المناسبات الاجتماعية على مستوى الأفراد والمجتمعات الصغيرة بوضع الضوابط أو تأجيلها، إلا أنّ المناسبات الدينية كانت هي الأخطر، التي لا يمكن الحدّ منها إلّا بفتوى مرجعية، فقد اضطر رئيس خلية الأزمة إلى أن يتنقّل بنفسه ويزور المرجعيات الدينية من أجل الحدّ من هذه المظاهر والالتزام بالحظر الصحي، لكن بعضاً من أفراد المجتمع رأى في هذه الإجراءات تجاوزا على حريته الشخصية وانتقاصاً من حرّيته الشخصية في ظلّ الديمقراطية، وهو تصوّر ينمّ عن قلّة وعي بمخاطر هذه الممارسة في ظلّ الظرف الوبائي،حتى إن بعضهم أعلن عبر مكبرات الصوت تحدّيه لكلّ تلك الإجراءات وتمسكّه بولائه للأئمة الأطهار، في حين أنّ الالتزام بالتعليمات وتجنيب الآخرين الأذى في التزامه بتلك التعليمات لا يعني انتقاصاً من إيمانه أو ولائه الديني.
وأسندت المرجعية الدينية خطوات خلية الأزمة من أجل سلامة الوطن والمواطن وطالبت أيضا بدعمها وإسنادها واحترام وتقدير ملاكاتها الصحية في خطّ الصدّ الأول، وحيّت تلك الجهود البطولية إدراكا منها لخطورة المعركة وصعوبة مواجهة عدو غير مرئي بإمكانات صحية متواضعة والخشية من تفشّي الوباء وانهيار النظام الصحي في البلد، فقد شخّصت خلية الأزمة بهذه الخطوات الاجرائية، إن الجهل والتخلف والاكتظاظ السكاني بيئات ملائمة لانتشار الوباء، لذلك راحت تستصرخ تلك المجتمعات إلى اتّخاذ الحذر والالتزام بإرشادات الوقاية الصحية وضرورة إجراء الفحص المبكر عن الحالات المشتبه بها، لكن كذلك كان في حال صراع مع منظومة القيم البالية المترسخة في عقول شرائح واسعة من المجتمع ضمن مفهوم “العيب الاجتماعي” مما يستدعي إخفاء حالات الإصابة أو عدم الإخبار عن الملامسين ليترك فرصة واسعة لانتشار الفيروس، والمساهمة الفاعلة في إبادة أكثر عدد من المواطنين الأبرياء.
هذه المجتمعات المكتظّة والبسيطة، التي لم تعتد على ممارسات كهذه، تستلذ بالخرق والتجاوز على القانون والاستخفاف بالنتائج، فالمواطن الذي يعلّق أمانيه وأحلامه وطموحاته في شباك ويعود إلى بيته ليدخن ويأكل وينام من دون السعي لتحقيق ذلك لا يمكنه أن يمارس الانضباط من أجل مصلحته ومصلحة أسرته والمجتمع بصورة عامة، لذلك يمكن أن تكون وسائل القوة المشددة عناصر مساعدة على فرض القانون وحماية المجتمع من مخاطر تلك التجاوزات .
وإذا كانت الأزمات الثقافية والفكرية والاجتماعية تلقي بظلالها على الأزمة الوبائية بصورة مباشرة من خلال ممارسات وسلوكيات وأفعال ومظاهر تحدٍّ للوباء، فإنّها أيضا تعرقل عمل خلية الأزمة، كما أنها لا تدلّ على وعي وإنّما عن جهل مستفحل في البيئات الاجتماعية، وإن كان بعضٌ منها يظهر نفسه بمظاهر مشروعة أو إنسانية، بما يشير إلى عجز الحكومات عن الانتباه لهذه الشرائح المعدومة، التي تبحث عن وسائل العيش المتاحة، فإنّه من الجانب الآخر لضفة مواجهة الأزمة، هو الأزمة السياسية والحراك المشلول جراء الاختلافات السياسية على معظم المرشحين لرئاسة الوزراء، مما ألقى بظلال هذه الأزمة على عمل الخلية، حيث ما زالت حكومة تصريف الأعمال مكتوفة الأيدي في تقديم الدعم للخلية، وتعطلت الرئاسات الثلاث، واكتفت بالبيانات اللفظية الساندة للخلية، وبقيت الملاكات الصحية من أطباء وعناصر ساندة في المفاصل الصحية 
تعمل بصورة جهادية من أجل الحفاظ على ما تبقّى من النظام الصحي من الانهيار، لكن هذه الخطوة لن تتمّ إذا لم يكن هناك تعاون من المجتمع والمؤسسات الحكومية لدعم وإسناد هذا القطاع وتسهيل عمل خلية الأزمة وانسيابيته لصالح الوطن والمواطن.