نظرات في كتاب معجم اللغة العاميَّة البغداديَّة

ثقافة شعبية 2020/04/02
...

 ريسان الخزعلي
 
 
 
 
(1)
الشيخ جلال الحنفي البغدادي، شخصية ثقافية متعددة المواهب والإهتمامات ، ونتيجة لهذه التعددية اكتسب صفته الموسوعية حيث أثرى المكتبة العراقية بكتبٍ ما زالت تشغل رفوف هذه المكتبة وقد أصبحت مراجع َ للباحثين والدارسين نتيجة رصانتها ودقتها ومنهجيتها في البحث والتقصي ، وهنا لابدَّ من التذكير ببعضها : العروض وتهذيبه ، المغنّون البغداديون، معجم الصناعات والحِرَف البغدادية، الايمان البغدادية، الأمثال البغدادية، معجم اللغة العامية البغدادية، وغيرها.
من ملاحظة هذه العناوين يتضح مدى انشغاله واهتمامه بالتراث الشعبي البغدادي الذي يعتبره جزءاً من ثقافة بغداد الشعبية ؛ وما اعتداده بلقب البغدادي إلا التأكيد الإضافي في تأصيل البغدادية، حيث بغداد هي التأصيل والأصول، تاريخيّاً وثقافيّاً.
في كتابه (معجم اللغة العامية البغدادية) والذي يقول عنه: إنّه ُ متابعة شخصية لألفاظ البغادّة في الحياة اليومية خلال خمسين سنة، بحث َ جذور المفردات الشعبية واشتقاقاتها اللغوية حسب الحروف الهجائية متماهياً بشكلٍ أو آخر مع الفراهيدي في كتاب العين ؛ ويُضاف لمتابعته الشخصية اعتماده مصادر قديمة كان لها السبق في مثل هذا المبحث، ومن بينها : قاموس العوام في دار السلام للسيد محمد سعيد آل مصطفى الخليل، أصول ألفاظ اللهجة العراقية للشيخ محمد رضا الشبيبي ، المُحكم في الألفاظ العامية للدكتور أحمد عيسى ، مجلة لغة العرب للأب الكرملي. وبذلك يصح أن نطلق على هذا الكتاب صفة التكامل.
 
( 2 )
إنَّ أهم ما يمكن أن نتشاغل ونتداخل به مع الشيخ البغدادي: كيف استخدم التوصيف – اللغة العامية بدل اللهجة العامية؟ وهو العارف بأنَّ اللغة تقوم على النحو والصرف والقاعدة على العكس من اللهجة؛ وأرى استنتاجاً لا يقطع بالجزم، أنهُ وجدَ في سعة تداول المفردات الشعبية في الحياة اليومية ما يطغي ، ويُعوّض عن الفصحى، لساناً، بعد أن أصبحت اللهجة مادة ً في الغناء والشعر والمسرح والتحاور، وبذلك اكتسبت صفة ً لغويةً خاصة، إضافة الى الدليل التاريخي الذي يقول بأنَّ كلَّ لهجةٍ كانت لغةً في يومٍ ما.
وفي تشاغل آخر مع الشيخ البغدادي، نجد أن َّ المفردات الشعبية التي بحث في جذور تسمياتها واشتقاقاتها لم تكن مقتصرة على لهجة البغداديين ، وإنما الكثير منها شائع في الجنوب والغرب العراقيين ايضاً ، وبذلك تكون التسمية الأرسخ لكتابه: معجم اللغة العامية العراقية . وللدقة ، فإنه ُ يشير إحياناً الى ذلك ويستدرك حينما يعرف أنَّ هذه المفردة أو تلك شائعة في مدن ومناطق أُخرى، ويبدو أنَّ بغداديته كانت تمسك أصابعه كثيراً حيث يقول : كنت ُ أتقمص فيما أقول شخصية العامي البغدادي تقمّصاً تاماً لأني واحد من بين الذين أظلتهم سماء بغداد، ولولا هذا التقمّص لما أمكن لي الإحاطة بكثير مما أحطتُ به.
 
( 3 )
الشيخ البغدادي يقرُّ في مقدمة الكتاب موضحاً منهجه في البحث والاحصاء، بأنه لم يكن ناقداً اجتماعياً، وإنما مؤرخ للألفاظ والتقاليد التي ترتبط بدلالات المفردات ما حَسُنَ منها وما لم يحسن وبما يعكس اجتماعيتها وفولكلوريتها، حيث يقول:
أود ُّ أن أُشير الى أنَّ الجانب الفولكلوري هو السائد في هذا المعجم، مضافاً الى الجانب اللهجوي والإحصائي ( ولنلاحظ عبارته – الجانب اللهجوي بدل الجانب اللغوي الذي اعتمده في تسمية عنوان الكتاب!).. ويُكمل قوله: أرجو ألا يُنسب إليَّ شيء من الاعتراف بشرعية ما أنقله للقارئ في هذا المعجم من غرائب ومعتقدات العامة ، ومواضعاتهم التي تواضعوا عليها في كثير من ضروب حياتهم الاجتماعية ، فإذا رحت ُ أذكر بعض وسائلهم في العلاج ، فليس معنى ذلك أني أُزكّي هذا العلاج وأقرّه ، كما أني حين أُشير الى بعض خرافاتهم لا أُخضع ذلك للمجاهرة بنقد ٍ أو شيء من هذا القبيل ، لأن َّ دوري في المعجم ليس دور الناقد الاجتماعي ، وإنما أنا مؤرخ للألفاظ والتقاليد.
 
(3 )
لغرض توضيح طريقة الشيخ البغدادي في تعريف المفردات الشعبية واشتقاقاتها وارتباطها بغيرها من اللهجات ، نورد المثال الآتي:
تُكمه - يصفون الشيء المُحكم بأنهُ (تُكمه) وفي التركية (تقما) بمعنى سداد الكوز وغيره، ومنه جاءت كلمة تُكمه بمعنى مُحكَم.. والتُكمه جي هو مَن يقوم بسكب المعادن على الهيئات المطلوبة ، واللفظ من التركية (تَوكْمَق) أي السكب..، والتُكمه جي يُلفظ تُكمجي. والتكمه بكسر التاء وجمعها تِكَم- الدعامة من خشب تكون تحت السقف.. قال في (قاموس العوام) إنها محرّفة (ديكمه) التركية بمعنى المعتدل الثابت..، والتِكمه كذلك: حركة من حركات المصارعة محرفة (تيمه) التركية وهي رفس الحيوان برجله، قاله في قاموس
العوام.