الخاسر الأكبر

آراء 2020/04/07
...


رواق عداي
 
فيروس كورونا المتناهي في الصغر، يضربُ الاقتصاد العالمي في الصميم، ومن تداعياته المتجلية بقوة هو انهيار سريع وكبير في أسعار النفط . والحقيقة إنَّ هذا الفيروس الطارئ والمستجد لم يكن الفاعل الوحيد والحاسم في التأثير على أسواق النفط العالمية، وإنما هناك فيروسات أشد دهاءً وأطول أجلاً، تخطط بدقة للتلاعب في أسعار النفط العالمية، ولكنها هذه المرة تجمعت كلها في إنتاج أزمة مركبة ذات طابع كارثي.

الميزة الأساسيَّة في أسعار النفط، هي كون النفط سلعة تحددها سوق عالمية متفاعلة تتأثر بعوامل شتى لا تمت بصلة الى حيثيات شؤون النفط المحلية، منها التوقعات في احتماليات وقوعها، أو الأحداث بحالة وقوعها حقاً، منها السياسية، والحربية، والوبائية، والتطورات التكنولوجية، والتقدم في إنتاج بدائل
 الطاقة...
في سنة 1973 وعلى إثر حرب تشرين مع إسرائيل، قررت الدول العربية المنتجة للنفط، والمنضوية في منظمة الدول المنتجة للنفط "أوبك"، إيقاف تصدير النفط الى أوروبا وأميركا، فأحدث هذا الإجراء صدمة كبرى للدول الصناعية والعالم أجمع، وترتب عليه ارتفاعٌ غر مسبوق في أسعار النفط بشكل أساس، وفي أسعار السلع المنتجة في هذه البلدان، وكرد فعل فوري استنفرت الماكنة الايدولوجية والستراتيجية الرأسمالية، وبرز مفهوم (حرب النفط)، ومن مخرجاته العملية هو منظمة الطاقة الدولية أو الدول الصناعية المستهلكة للنفط، أحد التماعات وابتكارات (هنري كيسنجر) وزير خارجية أميركا الأسبق، لوضع السياسات الستراتيجية المضادة والمقابلة لخطط منظمة أوبك، وكانت الخطة الأولى الفورية والطارئة والسرية، هي احتواء الصدمة المفاجئة، وتحمل ما يترتب عليها من خسائر مالية، والعمل على تخزين أكبر كمية منه، وضخه لاحقاً على حين غرة، وبطريقة مفاجئة لإحداث الصدمة في مستويات العرض في أسواق النفط العالمية.
بعد هذه العملية تحقق توازن في أسعار النفط عالمياً، ولكنَّ الأسعار لم تعد منخفضة كما هي قبل الصدمة الأولى، وظل النفط في العقود اللاحقة يتراوح بين صعود ونزول وأزمات وفقاً للمحركات والعوامل المشار إليها سابقاً، الى أنْ تبدلت المنظومات والخرائط والتشكيلات السياسية، والمبتكرات التكنولوجية، أو لنقل التبدل في العالم عبر سلسلة من الانزياحات الجذرية، أدت كل هذه التغيرات الى تضاؤل دور كلا
 المنظمتين.
فأميركا لم تعد اليوم كما هي في السبعينيات، دولة صناعية كبرى مستوردة كبيرة للنفط، فهي اليوم منتجة للنفط على مستوى سد الحاجة المحلية، وهي عازمة على تصديره في الأعوام المقبلة، كما أنها تحرز المرتبة الأولى في إنتاج النفط الصخري (الاحفوري)، ومختبراتها تتسابق في العمل للتقليل من كلف إنتاجه، وهذا يعدُّ عنصراً منافساً في تقرير أسعار النفط التقليدي، ومن الجدير ذكره في هذا المجال إنَّ الصين المستهلك الأول في العالم تخطو الخطوات الأولى في إنتاج هذا البديل النفطي، نظراً لاتساع شواطئها
 البحريَّة.
أما روسيا، وعلى خلاف ما يعتقد البعض، فهي اليوم تتطلع بقوة حتى تصبح القطب المقابل لأميركا كما كان الاتحاد السوفييتي السابق في حقبة الحرب الباردة، بصيغة عولميَّة جديدة، فهي تعبر عتبة نادي الرأسمالية، بإنتاج نفطي يتجاوز العشرة ملايين برميل يومياً، وهي قادرة بفضل تكنولوجيتها المتقدمة، وخبرتها المتراكمة، أنْ تدخلَ سوق النفط العالميَّة بإنتاجيَّة وفيرة.
أزمة انهيار النفط الأخيرة، تزامنت مع تفشي فيروس كورونا، التي أضعفت أداء الاقتصاد العالمي، فتشكلت سلسلة من المؤثرات والمتأثرات، في أغلبها كان عنصر القصدة واضحاً الى حد كبر، ومشتغلاً عليه في تقاطعات الأجندات الدوليَّة منها: كون أميركا تراقب تحركات روسيا العسكرية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط وعلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتوغلها السلس الى دول الخليج، وافريقيا، وهذا النشاط العولمي الروسي يؤرق أميركا، فلا بدَّ لسلاح النفط أنْ يشهرَ ويستخدمَ بقوة بالضد من روسيا، لا سيما أنها تعلم أنَّ الأمور لو تركت في ظل الاستقرار على أسعار عالية للنفط متراوحة بين الستين والسبعين دولاراً للبرميل الواحد سيفيد روسيا كثيراً في غمرة السعي الروسي في الخروج عن اتفاق بينها وبين منظمة أوبك التي تحاور السعودية بالنيابة عنها في تقليل إنتاج النفط وفقاً للاتفاق المعقود بين الطرفين سابقاً.
أميركا لم ترغب في الظهور على العلن في هذه المواجهة، فأرادت أنْ تحركَ اللاعبين من خلف الستار، فأوعزت للسعودية للضغط على روسيا قبل أكثر من شهر، إذ تعنت الطرفان في الوصول الى الاتفاق على صيغة جديدة في الإنتاج لمواجهة انهيار أسعار النفط الحاصل، فكلاهما هدد بزيادة الإنتاج، روسيا لتتجاوز العشرة ملايين برميل، والسعودية تتطلع الى تحقيق مستوى إنتاجي يفوق ثلاثة عشر برميل يومياً، وهكذا ليعوم العالم على بحيرة واسعة من النفط لا آفاق لها.
كل الدول كانت تحسب إمكاناتها بدقة وتحتسب لأزمة كهذه، فمثلاً الدول الخليجيَّة قاطبة ومنها السعودية تهيأت لمثل هذه التطورات، لامتلاكها أموالاً احتياطية، وصناديق لمواجهة الاختلالات المتوقعة، وأصولاً مالية أخرى، فالسعودية أرادت عبر (ارامكو) أنْ تعوضَ الخسارة في زيادة كبيرة جداً في
 الإنتاج.
في ظل هذه التداعيات الكبيرة في أسعار النفط، ربما تستفيد بعض دول العالم المستهلكة له "وبالذات الدول التي تحتاج البنزين الذي ستهبط أسعاره كثيراً، علما أنَّ البنزين يشكل نسبة عشرين بالمئة من النفط الخام الستهلك عالمياً، من جهة ثانية إنَّ الهبوط في النمو الاقتصادي العالمي، الناتج عن تفشي كورونا، سيسمح بالاستمرار نحو مستوى القعر في الأسعار، إذ إنه لولم ينتشر هذا الوباء لعمدت الدول الصناعيَّة نفسها في منع استمرار انخفاضه لأنَّ هذا من شأنه أنْ يقللَ الطلب الكلي على أسعار سلعها.