علي لفته سعيد
لم يأت مفهوم الاعتدال والوسطية من فراغٍ ثقافي أو اجتماعي أو ديني، بل جاء بعد أن توسّع ما هو عكس الاعتدال والوسطية ليكون هو الطاغي في الحياة، ويكون أكثر قساوة في المفهوم المعاش.. وقد انبثق أولًا بعد أن تحوّل الفقه الى علامةٍ واضحةٍ ومفضوحةٍ في ممارسة ما هو عكس الاعتدال والذي صار بأبسط تعريف له وهو التعصّب..
ولأن هذا المفهوم يراوح بين حالتي الوسطية والاعتدال فإن ما يمكن أن يوصل الى الدلالة اللغوية هو إن الاعتدال يعني (الاستقامة، والاستواء، والتزكية، والتوسط بين حالين، بين مجاوزة الحدّ الطلوب والقصور) ولأن المقاربة تهدف الى ترشيح الوسطية والاعتدال ضمن الإطار الديني أو التقارب بين الأديان، فإن ما آلت اليه أمور التعصّب الذي شهده العالم من خلال إغراق الفقهاء في التأويل والتفسير الديني والذي تحوّل الى عملية إكراه الآخر أو نبذه وقتله أو محاربته على أقل تقدير هو الذي أدّى الى المطالبة بأهمية وجود وسطية واعتدال في الفقه قبل أي مفهومٍ آخر.
إن ما يدعو الى وجود هذا المفهوم هو ما يقابله وجود تعصّب بدأ بنبذ الآراء الأخرى ليس فقط على الصعيد الفقهي الديني لكل الأديبان والطوائف، بل على جميع الأصعدة بما فيها الصراع بين الأيديولوجيات الأخرى سواء منها ما يتّخذ من التعاليم السماوية منهجًا لها أو من الأحزاب التي تعتمد على فكرةٍ أحاديةٍ تجعل منها المصداق الوحيد في عملية بثّ الأفكار.إن ما يمكن أن يكون إجابة على ماهيّة الحاجة الى تطبيق الوسطية والاعتدال هي الثقافة..كونها الوعي بما يملكه الآخر واحترامه لكي يتم قبول الرأي الآخر، وبالتالي فإن هذه النقطة تحتاج الى وسطيةٍ فكريةٍ واعيةٍ، وهي وسطيةٌ ثقافيةٌ بناءة تهضم أفكار الآخرين حتى المضادّة لها، ولا تسعى الى التعصّب والغلو وإن رأيها هو الأوحد والوحيد خاصة إذا ما ارتبط هذا الرأي بالمواضيع أو المسائل أو الأفكار الدينية، التي غالبًا ما تناقش الحيثيات من خلال ظواهرها وهي إحدى سمات المتعصّبين، وهو ما يمكن أن يشكّل الكثير من العلامات التي تحتاج الى مقابلةٍ ثقافيةٍ واعيةٍ وطرقٍ علميةٍ في الوصول الى مفهوم الاعتدال الذي يمكن أن يكون السمة الأساسية في إيجاد مجتمعٍ خالٍ من التعصّب الفكري والتطرف الأيديولوجي بكلّ معانيه وأجناسه، والوسطية لا تعني أن تكون خير الأمور أوسطها، بل إن الوسطية هي الوصول الى منطقةٍ قادرةٍ على معرفة السياقات التحليلية الصحيحة التي لا تعتمد على الفكرة الواحدة أو النصف الفارغ من الكأس أو ما تعالى من الظاهرة اللفظية التي أسّست لها عملية التطرّف الكثير من القنوات التي تعتمد على المقولة العاطفية، التي تدخل الى عقل التابع، ليكون مسلّمًا أموره بيد المتبوع، لذا فان الثقافة تجعل عملية البحث عن مشتركاتٍ فكريةٍ هي الأكثر مقبولية، مثلما تمتلك التأويل الصحيح للأشياء وليس إعطاء وسطية الرأي أو إن خير الأمور أوسطها، بل الوصول الى ماهية المختلَف عليه مع المختلِف معه..وهذا يتأتّى من خلال الفعل الثقافي الراهن والمؤمن بحتمية
التعايش..
بمعنى إن الثقافة هي الأكثر مقبولية في مواجهة التعصّب وهي الأفضل في تكوين شعار الوسطية الذي هو بالضرورة جاء من خلال الدين
الإسلامي.