زهير كاظم عبود
زرت بغداد، أول مرة في حياتي، في بداية الستينيّات. أرغمتني ظروف الحصول على ما تسمّى بشهادة الجنسية العراقية، التي تتطلبها أيّة معاملة حينها في العراق حتى تكتمل عراقيتي (وفق مفهوم الشهادة)، تجوّلت في شوارعها وساحاتها، بهرني جمالها وعماراتها وأشجارها وحدائقها ونظافتها، وزادني إعجاباً ذلك النصب المقوس بانسيابية جميلة، الرابض وسط أهم ساحاتها، نصب الجندي المجهول.
اقتربت كثيراً من النصب وشاهدت تلك النار المشتعلة باستمرار، ودارت في ذهني اليافع أسئلة كثيرة: هل حقا أنّ هناك جندياً مدفونا تحت هذا النصب؟ هل أنّه يرمز للمقاتل المدافع عن الوطن ممّن لم يتم التعرف على هويته؟ ومن هو مهندس ومصمم هذا النصب الذي صار رمزاً من رموز بغداد ومَعلماً من
معالمها؟
لم يكن عقل المراهق القادم من مدينة صغيرة ومسحوقة أن يتوصل إلى الإجابات، لكنّها بقيت تدور في مخيلته، بعد حين تعرفت على تفاصيل ذلك النصب الجميل، من خلال مطالعاتي للمجلات العراقية والعربية، ومن ثمّ عرفت باسم المهندس والفنان رفعة الجادرجي، مصمم نصب الجندي المجهول، وزادني إعجابا بهذا الإسم اقترانه باسم والده كامل الجادرجي، أحد الشخصيات الوطنية العراقية، ومؤسس الحزب الوطني
الديمقراطي.
بقي نصب الجندي المجهول قائما يفرض تميّزه وجماله وسط مدينة تميزت بكلّ ما هو جميل، وبدأت معالم فن العمارة والفنون التشكيلية تزينها وتبرز أناقتها، حتّى نهاية العام 1982، إذ فوجئنا بهدمه وإزالة معالمه كليّا، وتهديم المنطقة المقابلة له من جهة شارع أبو نؤاس، فرضت السلطة رغبتها في إزالة هذا المَعلَم الجميل من دون مراعاة رغبة الناس ومشاعرها، ربّما لأنّ النصب أقيم في زمن الزعيم عبد الكريم قاسم، وربّما لأغراض التوسع العمراني وإقامة فنادق كبيرة تفتقر إليها بغداد، وربّما لأسباب أخرى! غير أنّ الهدم جرى سريعا، لكن صورة النصب بقيت رمزا منقوشا في ذاكرة
العراقيين.
توسّعت المعرفة عندي لأعرف أنّ مهندس الجندي المجهول ذاته مصمم قاعدة نصب الحرية في ساحة التحرير، وأنّه من رعيل الفنانين الذين نهجوا أسلوبا أكاديميا عمليا في التشكيل الفني ينمّ عن معرفة ودراية عميقة بأصول هذا الفن، ليتمكن من إدخال فن العمارة الشرقي والعربي ضمن أساليب هذا المنهج، ليصطف اسمه مع محمد صالح مكية وزها حديد وغيرهم من أعمدة الشخصيات المعمارية الحديثة الكبيرة في العراق.
أضفى الجادرجي لمسات فنية جميلة على العمارة العراقية، ولجأ إلى استخدام الطابوق العراقي الذي شكّل منه شناشيل وأقواس زادت العمارة جمالا أصالة، ويمكن أن تشاهد ذلك الفن ينعكس عمليا في عمارة الاتصالات القائمة في منطقة السنك ببغداد واتحاد الصناعات العراقي والمجمع العلمي العراقي، إذ تجد معالم البيوت البغدادية والأصالة العراقية ضمن تلك المباني، من دون التفريط بما تعلمه من حداثة وتطور في معالم العمارة الحديث حين تلج إليها من الداخل.
في نصب الحرية تجد أنّ روحه بقيت معلقة مع تماثيل جواد سليم، فقائمة النصب ودعامته جزء من روعة وجمالية النصب، إذ تستكمل إحداهما الأخرى، وحين تمرّ من تحت النصب في ساحة التحرير تشعر بأنفاس الجادرجي وجواد سليم تختلطان بأنفاسك، وأنّهما صارا جزءاً من هذا النصب الخالد.
لم يتركز اهتمام الجادرجي على الشكل الخارجي للعمارة، وحين تدقق في تفاصيل أعماله ستلمس ذلك التناغم والتمازج بين الشكل الخارجي والمضمون الفني وتلك مسألة مهمة وصعبة في مفهوم العمارة الحديثة حسب ما عرفت، وحين ترك رفعة الجادرجي العراق مرغما، بعد ظروف عسيرة قضاها في سجن أبو غريب، لكسر قدراته وإحباط همّته في التطوير والعطاء، ومن ثم محاولة تحطيم صورته وتحجيم شخصيته وكبرياءَه من قبل سلطة اتخذت من استهدافها العلماء والفنانين منهجاً، لفرض سطوتها وهيمنتها على جميع أشكال الحياة في العراق وفق رؤى متخلفة وبدائية لم نزل نعاني
منها.
غادر الجادرجي إلى لندن ولم تتمكن السلطة الصدامية من أن تكسر قدراته وتحطم إرادته، فكان يحمل تفاصيل وجع العراق في روحه التي لم تبتعد عن سماوات بغداد، فكانت فرصة أخرى له للعطاء لينجز كتبا في مفهومه لفن العمارة الحديثة، أغنت المكتبة العراقية والعربية، وصارت مرجعا للباحثين والعاملين في هذا المضمار الرائع والجميل.
ترك رفعة الجادرجي بصمات متميزة على فن العمارة العربية، وأثرى الهندسة المعمارية بأفكار المؤامة بين التقاليد المعمارية التقليدية وبين الواقع والظروف والبيئة المحلية، وتمكن من أن يترك أثراً في هندسة البيت العراقي المتميز بالاستفادة من التطور الحاصل في فن العمارة الحديثة، وبين إخضاع التراث للتمازج ومسايرة هذا
الفن.
خلال 90 سنة من عمر الفنان الكبير رفعة الجادرجي (1926)، حقق حضورا كبيراً، وأنجز معالم لا يمكن للعراقيين أن ينسوها، وإرثا لم يزل العديد من الفنانين المعماريين والتشكيليين ملتزمين به، وأعطى العراق روحه وحياته، فكان جديراً بأنْ يكون إرثا عراقيا نتفاخر به مثلما نتفاخر بنصب الحرية وبمعالم بغداد الجميلة، ومثلما نتفاخر بكل هذه الأسماء التي تركت بصماتها وعطاءها وفنّها الجميل
وقدراتها.
وإذا كان رفعة الجادرجي قد حصد جزءاً من نتائج أعماله الفنية والهندسة، وبحوثه في الفنون التشكيلية والعمارة الحديثة، على شكل جوائز تقديرية وشهادات من جامعات أجنبية ومن جهات أكاديمية رفيعة المستوى، فإنَّ له حقاً على العراق أن يمنحه ما يميزه ويجزيه لأعماله الجميلة وآثاره الرائدة وأفكاره المبدعة في فن العمارة العراقيَّة.
ويحق لنا أنْ نتفاخر كعراقيين برفعة الجادرجي، وكلّ رعيل الفنانين والمعماريين الذين لم يقتصر دورهم في العطاء للعراق فحسب، بل فاض العطاء ليشمل كلّ الإنسانيَّة، فإنَّ هذه الأسماء بما شكّلت من تجسيد لمعالم فنّ العمارة والأساليب الفنية في البناء، تركت خلفها صروحاً تبهر العين وتسر القلب، فيستذكرهم العالم بشيء من الإعجاب والتقدير، نجد أنَّ الأوان قد آن لتكتب أسماء الشوارع والحارات بأسمائهم، وبذلك نرد لهم جزءاً من العطاء الذي بذلته هذه الأسماء للعراق الحديث، وها هو يرحل عنّا بعد أن رسّخ اسمه عميقاً في الذاكرة
العراقية.
تحية للراحل ولكلّ المبدعين ولكلّ من أعطى العراق في كل المجالات.