نصير فليح
جاء وباء كورونا ليغزو العالم كله وليؤجل كل المشكلات العالقة الى حين. وفي بلدنا الذي وصلت فيه الاصابات والوفيات بحدود المئات والعشرات، فإن الوباء الاكبر الذي نعاني منه، هو وباء الفساد، المسبب الرئيس لشظف العيش وتدهور الخدمات والبطالة لمئات الآلاف والملايين من الناس...تُرى ما أوجه التشابه والاختلاف بين الوباءين؟ وباء كورونا لا يميز بين البشر، الغني والفقير المتنفذ وغير المتنفذ، وجاء مفاجئاً ليغمر العالم كله، والاجراءات جارية على قدم وساق لحظر التجوال والبحث عن علاجات واحتواء المرضى وما الى ذلك. وباء كورونا يستهدف جسد الانسان، يحجره في البيت، ويهدد بموته الجسدي.
لكن في البلاد التي يتفشى فيها الفقر والبطالة والمشكلات الاجتماعية المزمنة، فإن وباء كورونا أضيق بكثير من مشكلات أوسع نطاقاً، كالفساد في بلادنا. فالأخير لا يحجر الناس في بيوتهم، ولا يحتاج ان يلبسوا الكمامات الواقية ولا يهدد اجسادهم مباشرة، ولكنه يدمر حياة الملايين بانتظام و"هدوء نسبي"، كما انه لا ينتقل بالعدوى الجسدية، وانما بالعدوى الاخلاقية، وهذه الاخيرة انتشرت واستقرت وترسخت منذ عقود، حتى اصبحت "منطقاً طبيعياً". وباء كورونا يحدد المسألة بأن تحيا او تموت، أما وباء الفساد فيحدد المسألة أن تعيش بكرامة أم لا، في معاناة يومية للملايين قوامها الكدح الشاق لتوفير لقمة يوم اضافي
آخر.
لكن للوباءين جانباً اخلاقياً آخر، فالوباء الجسدي يعيد الانسان الى التوقف مع الأسئلة الاساسية عن الحياة والموت ومعنى الوجود، وبهذا قد يكون له بعض التأثير الايجابي في مراجعة الفرد والمجتمع لحياته ومعاييره وقيمه وطريقة حياته. أما وباء الفساد فيدفع الانسان دفعاً في عالم المصالح والانانية والتغالب وعالم الغاب، حيث القوي يأكل الضعيف، لتتراجع التساؤلات عن القيم والمبادئ الانسانية والروحية، ويتكرس مجتمع الأنانية المقيت.
وباء كورونا لا يتأثر بالمحاصصة، مثلاً، لكنه يتأثر بالتفاوت المعيشي واللاعدالة الاجتماعية اكثر، ذلك ان الموسورين لديهم من وسائل العيش ما يمكنهم أن يعيشوا سنوات وعقوداً دون عمل. بينما الفقراء الذين يعيشون يوماً بيوم، فإن وباء كورونا وما يتطلبه من حجر يعني لهم شيئاً مختلفاً تماماً ، إنه يعني الحجر أيضاً على ما يحتاجه الاطفال والاسرة من ضرورات كل يوم. عندما ينتهي أو يتراجع وباء كورونا ذات يوم، سيعود الناس الى حياتهم المعتادة بالتدريج، يكونون قد دفنوا موتاهم ، وعادوا الى السعي الدائم. عندها سيبرز وباء الفساد الى الواجهة مجدداً، وهو يحمل متطلباته التي لن تكون ضرورة الحجر الصحي، بل ضرورة الكدح الشاق وراء المعيشة في بلد غني أصلاً، لم يسعد ابناؤه يوماً بما يملك من ثروات. أولئك الذين قرؤوا الفاتحة على امواتهم، قد يتعلم بعضهم شيئاً من دروس الحياة، ولكن عالم المال الأعمى، سيعيد اغلب النهابين الى ديدنهم السابق، بعد أن يجدوا نفس "التخريجات" النفسية والاخلاقية بينهم وبين انفسهم لما يمارسونه من نهب أمسى معتاداً، حتى انه ليس سوى "حالة طبيعية" في نظرهم ونظر من يحيط بهم، مثل أي حالة جسدية اخرى معتادة، كحاجة الانسان الى النوم، أو إذا لم يصل الى هذه الدرجة من "الاعتيادية" في نظرهم، فعلى الأقل هو أشبه بحالة بسيطة من الاعتلال البسيط، مثل اصابة الجسد بالبرد بين فترة واخرى. لكورونا منطقه، وللفساد منطقه، وبعد أن ينتهي منطق الأول، لا بد أن يبرز منطق الثاني الى الواجهة، وعندها سيبرز معه سؤال جذري ايضا: هل يمكن أن نصل يوماً الى محاربة الفساد بالهمة والصرامة التي تمت بها محاربة
كورونا؟