الثورات يأكلها أبناؤها

آراء 2020/04/20
...

عبد الأمير المجر 
 
عندما أخذ روبسبير يبطش برفاقه، بُعيد نجاح الثورة الفرنسيّة، صرخ به أحدهم، وهو يقاد إلى المقصلة، مبشّراً إيّاه بالمصير الحتمي الذي سيأتي به إلى المقصلة ذاتها. دارت الأيام، وإذا بروبسبير يُقاد فعلا إلى مصيره الأسود، لكن بفكّ مكسور ينزف دما، وألمٍ مبرّح لم تنهه إلّا المقصلة التي فصلت رأسه عن جسده، وطوت صفحة مؤلمة من صفحات الثورة الفرنسية التي أصابت الكثيرين من المثقفين والشعراء الفرنسيين، قبل غيرهم، بالكآبة والإحباط، لما آل إليه مصير بلادهم، بعد أن ظنّوا أنّها عانقت أهدافها الكبرى في الحرية والإخاء والمساواة.
 ليست الثورة الفرنسية وحدها من يخبرنا التاريخ عن مجازرها، ولم تكن هي وحدها من أهدت الأدب السياسي المقولة التاريخية )الثورة تأكل أبناءها)، بل ثورات أخرى امتدت على مدى قرون، قبلها أو بعدها. لكن السؤال الذي بات في ذمة علم الاجتماع السياسي، هو لماذا يحصل هذا عند كلّ ثورة؟، ولن تستقر إلّا بعد أن تأكل ثوّارها ليتسلمها غيرهم، وهنا نتوقف عند مقولة أخرى أهدتها الثورات الأدبَ السياسي أيضا، وهي أنّ الثورات (يخطط لها المفكّرون، وينفّذها الشجعان، ويخطفها الجبناء). وبعيدا عن التفسيرات الجاهزة لتلك المقولات، لا بدّ من أن نتوقف عند حقيقة البشر أنفسهم، قبل أن يكونوا ثواراً أو مسؤولين، فالمشكلة لم تكن بروبسبير ولا بغيره ممّن عرفوا بتحوّلهم الغريب وإقصائهم رفاقهم، لأنّ النّفس البشرية واحدة، والطموحات المكبوتة تبحث عن فرصة، وهي عند الراديكاليين تتمثل بالثورات التي تعقبها الفوضى عادة، ومن هذه الحقيقة يبدأ صراع الثوار في ما بينهم، تحت مسوّغات شتى، ويحلّلوا (أكلهم بعضَهم)، مستفيدين من غياب قوانين الدولة الضابطة لأفعالهم، لا سيّما في المراحل البرزخية، وإن وجدت فلم تكن وسيلة إنفاذها بيد المهنيين، بل الثوار أنفسهم، فتنشأ الشلليات داخل قِدر الثورة الفائر للإمساك بالسلطة، وهكذا تأتي الثورات على أبنائها، قبل أن تستقر على الشلة الناجية منهم!
 لم نجد اختلافا كبيرا بين أغلب ساسة العالم في  التطلّع للنفوذ والسلطة، ولعلّ ما نشهده اليوم، حيث التغالب والجشع والحروب الخفية والعلنية، على الرغم من التقدم العلمي الهائل، هو انعكاس لحقيقة واحدة، مفادها أنّ البشرية لم تصل بعد مرحلة النضج التي تؤهّلها لقيادة نفسها بعدالة، ولو نسبية، لأنّ الصراع على المغانم ما زال مفتوحا وقوة القانون الدولي، غير راسخة كرسوخ القوانين المحلية في الدول المتقدمة التي تجاوزت مرحلة الثورات إلى الاستقرار المؤسسي، كبريطانيا وأميركا وفرنسا مثلا، وإن اتخذت هذه الدول المتقدمة نفسها، البلدان الضعيفة، ميادين للصراع الدموي مع منافسيها، وهذا، بالتأكيد، أكثر عاراً  وأوضع معياراً
 أيضا!
يتحدث بعضهم عن الديمقراطية في العراق، ونقول إنّ هذا الواقع لم يتحقق بعد، لأنّ سقف الدولة ما زال عاريا تقريبا، وأرضها ما زالت رخوة، الأمر الذي يتيح لكلّ من يعتقد به القدرة على الإمساك بها، العمل على ذلك، وبمختلف الوسائل، وأيضا يدفع بالأغراب للعمل على النفوذ والتمكّن، قبل أن تستقر الدولة العراقية على أثافي لا نصيب لهم فيها،  والسبب هو أنّنا لم نؤسس، أولا، لدولة قوية تحمي الديمقراطية، ولا تسمح، أيضا، لأبنائها أن يأكلوا بعضهم، وإنّما أقمنا ديمقراطية ضعيفة على أمل أن ننتج من خلالها دولة، ففقدنا الدولة وما كان منها في خضم الصراع الذي احتدم منذ سبعة عشر عاما، ولم نحقق الديمقراطية، لأنّها تحتاج إلى حاضنة مؤسساتية، يصعب وجودها من دون دولة، مثلما يصعب قيادة الدولة بطريقة سلمية من دون الديمقراطية، لا سيّما إذا كانت هناك قوى سياسية كثيرة، متناشزة الأهداف والرؤى والثقافات، ولا يضبط المعادلة بينها سوى نظام ديمقراطي، يفتقد اليوم مصداقية وجوده!
خلاصة ما نريد قوله، إنّه ليس مهما اليوم أن يكون الوزير في الحكومة المؤقتة المقبلة مستقلا أو حزبيا، بل المهم هو أن تعاد هيبة الدولة من خلال حصر السلاح بيدها فعلا، وأن ترصّن المؤسسات الأمنية القادرة على إنفاذ القانون، وحينذاك تستقيم الوزارات وينضبط عمل وزرائها، مثلما يستقيم الشارع وتبدأ عجلة الحياة بالدوران من جديد.