الحياة، مثل المسرح هي في الأساس خيال

بانوراما 2020/04/22
...

إد سيمون  ترجمة: جمال جمعة
 

وكما يعبّر الفيلسوف البريطاني كولين ماكجين، مؤلف كتاب (شكسبير والفلسفة): "الشك هو موضوع شكسبير الرئيس، لأنَّ إمكانية الضلال بشأن الناس والعالم.. بأشكاله المتعددة" هي إحدى الموضوعات الثابتة في مسرحياته. أعمال شكسبير تطرح الحياة، مثلما المسرح، جوهريّا كخيال، وواجب الفرد هو العيش في ضوء هذا الإدراك.
شكسبير، بالطبع، لم يكن فيلسوفا محترفا؛ واجبه الأول كان دائما هو تشييد عمله الفنّي. ولكن في العام 1817، زعم وليام هازلت بأنَّ شكسبير "كان فيلسوفا جيدا بالقدر الذي كان فيه شاعرا". ربما يتعين علينا، خاصة في الذكرى 404 على وفاته، التبصّر في الطرق التي نقل بها على نحو ثابت كاتبنا الأكثر تفردا وشمولا منظوره الفلسفيّ الخاص.
يمكن القول إنَّ مسألة الهوّة بين المظهر والواقع هي المشروع الرئيس للميتافيزيقيا. لقد حفّز ذلك كانت، ديكارت، بيركلي، هيوم، والفلاسفة العظام قبل سقراط، مثل بارمينيدس، فيثاغورس، وأفلاطون، الذين بالنسبة لهم، على حد تعبير ألفريد نورث وايتهيد، "كل الفلسفة الغربية ليست سوى تعليقات وهوامش". وإذا كان هذا صحيحا، فقد كتب شكسبير بعضا من أكثر التعليقات تنويرا (ونقدا) في تلك المجموعة من الهوامش. جعل شكسبير من "إيموجين" في مسرحية (سيمبيلين) تشارك في لحظة من اللحظات الأفلاطونية القاتمة والساخرة، عندما حين تستيقظ بجانب جثة مقطوعة الرأس، تعلّق: "آمل بأنني أحلم/ فقد حسبتُ أنني حارسة الكهف". في كهفها الخاص الواقعي، وربما الأفلاطوني، تغمغم، "لم تكن سوى صاعقةٍ من لا شيء، مصوّبة على لا شيء،/ مما يصنعه الدماغ من الأبخرة: أعيننا بالذات/ مثل أحكامنا أحيانا، عمياء".
هذا الموقف لا يمكن إخراجه من موضعه في (الجمهورية). ففي أمثولته عن الكهف، يقارن الفيلسوف (أفلاطون) على نحو معروف بين واقعنا وبين الظلال على الحائط. ولكن ثمة مشكلة تواجه أيّ فنان يرغب في التعبير عن هذه الرؤية، لأنه إذا كان عالم التجربة الإنسانية هو مجرد خداع، فما الذي يجعل منه عملا فنّيا؟ أفلاطون وشكسبير متفقان إلى حد ما على أنَّ الأدب هو نظام أكاذيب، لكنْ بينما يعتقد اليونانيّ أنَّ هناك "خصاما قديما بين الفلسفة والشعر"، فإنَّ شكسبير عالج مسائل تتعلق بالخداع والواقع والوهم والتجربة والخيال عبر مسرحياته الست وثلاثين لمسرحة هذه التناقضات الجوهرية للحياة وتمثيلها.
في كتابته عن عالم الهلوسة في مسرحية (حلم ليلة منتصف الصيف) مع "آليتها الفظّة" وحساسيتها الرهيفة، يلاحظ ماكجين أنَّ المسرحية "تتعلق كلها بصعوبة تمييز الحلم عن اليقظة، والوهم عن الواقع، بين ما هو مجرد تخيّل وبين ما هو حقيقي وما هو مدرك ملموس". تتخذ هذه الثيمة أهميَّة مركزيَّة عبر العديد من أعمال شكسبير، من الشبح الغامض في (هاملت) إلى تمثال هيرميون في ختام (حكاية الشتاء)، وغابة أردن الساحرة في مسرحيَّة (كما تحبها)، "والتي قد يمنح عنوانها ذاته درجة من النسبيَّة". في المسرحية الأخيرة، يعلن جاك بأنّ "العالم كلّه مسرح،/ وكل الرجال والنساء مجرد لاعبين". يمكننا قراءة هذا كتعليق على الأدوار الاجتماعية التي نقوم بها، لكنْ يمكننا أيضا تفسيرها بصورة أكثر راديكاليَّة. وكما عبّر عنها أ.د. نوتال في كتابه الذي لا غنى عنه (شكسبير المفكِّر): "أفلاطونية ابتدائيّة تشتغل في تضاعيف الفن الدراميّ".
ومع ذلك، فهذه الأفلاطونية ممزوجة بشكوكية معينة (ثمة الكثير في الهواء وقت التأليف). كما يعبّر ماكبث بصورة لا تُنسى: "ليست الحياة سوى ظلٍّ يمشي، ممثلٍ بائسٍ/ يتبختر ويستشيط في ساعته على المسرح/ ثم لا يعود يُسمع بعد ذاك". إذا كان أفلاطون قلقا من أن الأدب لم يكن سوى محاكاة باهتة للحياة، والتي هي بدورها محاكاة شاحبة لعالم الأشكال، فإنَّ المركز بالنسبة لشكسبير إذنْ أقل تأكيدا. ليس لأنَّ المسرح مشابه لحياتنا، بل لأنَّ حياتنا بالأحرى تشبه المسرح. ثمة فرق، لأنه إذا كان الأمر كما يقول ماكبث، فإنَّ دراما حياتنا لا تعني شيئا، إذنْ فنحن الممثلين لدينا القدرة على منح عروضنا معنى، حتى وإنْ كانت لا تعني شيئا في حد ذاتها.
قلب شكسبير إدانة أفلاطون للفن والشعر على رأسها ليحاجج بأنَّ الحكايات الخياليَّة أكثر حقيقيَّة من الواقع إلى حدٍ ما، أو كما يكتب ماكجين: "إنَّ الخيال له عمر أطول من الأشياء الماديَّة، لأنَّ مسرحيات شكسبير"، كما يقول، "ستدوم لفترة أطول من أي مبنى شُيَّد في زمنه؛ الخلود ينتمي، إنْ كان في أي مكان، إلى الشخصيات الخياليَّة، وليس لشخوص الحياة الحقيقيَّة". 
هذه هي الحجة المركزية لـ "ميتافيزيقيا شكسبير"، على الرغم من أنَّ المفهوم لم ينشأ مع الكاتب المسرحي، حتى ولو وفّر تضمينه الدرامي الكامل. قبل بضعة عقود من ذروة حياة شكسبير المهنيَّة، ادّعى أعظم نقاد الأدب الإليزابيثي، فيليب سيدني، شيئا مماثلا عندما كتب: "الآن بالنسبة للشاعر، فهو لا يجزم بشيء، ولذا فهو لا يكذب أبدا".
إنَّ وجود هذا النوع من الآراء في كتابات النقد الإليزابيثي ليس مفاجئا من الناحية التاريخية، وينبغي أن يوضع في نظر الاعتبار، خشية أن يأخذه أحد باعتباره حجّتي في أن هذا المنظور الخاص كان من ابتداع شكسبير. كان عصر النهضة في إنكلترا موطنا لمجموعة متنوعة من المواقف الفلسفيَّة التي تنعكس ليس فقط في المسرحيات الشعرية، ولكن أيضا في جميع صنوف الأدب في تلك الفترة. لقد طوّرت الأفلاطونية المحدثة القارّية، التي كانت محورا للمشروع الإنساني الأوروبي، طوّرت نكهاتها المحلية الخاصة بها على هيئة الأفلاطونيين الجدد في جامعة كامبريدج، وشكوكيّة معينة مرتبكة محتفى بها من قبل كتّاب مثل دي مونتين (الذي كان شكسبير قد قرأه في ترجمة جون فلوريو) والذي كان مُستكشَفا على نطاق واسع من قبل المؤلفين. 
كانت أسئلة الواقع، والوهم، والحقيقة، والخداع شائعة، ليس في الثقافة فحسب، بل في المسرح الشعبي أيضاً. مساهمة شكسبير في هذا التقليد تظلّ الأكثر ديمومة من الناحية الثقافية.
يقول أنطونيو في مسرحية (تاجر البندقية): "أنا لا أرى العالَم إلاّ كعالَم.. مسرح يتوجب فيه على كل إنسان أن يلعب دوراً ما". هذه بالطبع استعارة، لكنها استعارة قويَّة، وتوضح كيفيَّة توظيف شكسبير لموضوع الأحلام إزاء الواقع، والذي يتم التعبير عنه بشكلٍ أكثر حرفية في مسرحيات مثل (العاصفة). هذا هو، في جزءٍ منه، مصدر استثنائية شكسبير. كما يوضح ماكجين، كان شكسبير "أصيلاً في رؤية أنَّ التشكيك هو جزءٌ من الحياة، وليس مجرد تساؤل فيلسوف"، وهذا صحيح بشكل خاص "في ما يتعلق بالعقول الأخرى".
بالنسبة لتنوع موضوعات الكاتب في السرد، من اللافت للنظر مدى اتساقه مع الحجة التي تقول بالطبيعة الوهميَّة للواقع المرئي. في المونولوج ذاته الذي تم اقتباسه سابقاً، يهدم بروسبيرو الجدار الرابع، قائلاً: "وهؤلاء الممثلون أمامنا/ كما تكهنت لك، لم يكونوا سوى أرواحٍ و/ تلاشت جميعها في الهواء، في الهواء الرقيق". لافتاً الانتباه إلى الموضع الحرفي المحتمل لأداء المسرحيَّة، يقول دوق ميلانو إنَّ "الكرة الأرضيَّة العظيمة ذاتها.. سوف تتلاشى" بمجرد انتهاء سحر الدراما المخادع. بالطبع، يمكن أنْ تحيل "الكرة الأرضية العظيمة" إلى العالم نفسه.
ميتافيزيقيا شكسبير يتردد صداها عند بيكاسو، الذي يزعم أنَّ "الفن كذبةٌ تكشف عن الحقيقة". لكنْ بالنسبة لشكسبير، فإنَّ الحياة بحد ذاتها هي نوعٌ من الكذب. ليس (الفن الشعري Ars Poetica) للكاتب المسرحي مجرد وسيلة للبرهان على الطبيعة المخادعة لواقعنا، لكنْ أيضا على موهبته الخاصة في نظم مثل هذه القصص الأدبيَّة القويّة والمؤثرة بعمق والتي هي، بالرغم من ذلك، خياليَّة. مسرحياته الست وثلاثون تمسك بسلسلة من التجارب الإنسانية والشخصيات. إنَّ تشييد شكسبير لهذه العوالم الجديدة والجريئة بالكلمات وحدها لهوَ خدعة تليق ببطله بروسبيرو. إنَّ خلود مسرحياته بالذات هو بمثابة استنتاج لجدله بشأن الخيال والواقع.
 
[إد سيمون: محرر مشارك في مجلة Marginalia Review of Books، حاصل على الدكتوراه في اللغة الإنكليزية من جامعة ليهاي في بنسلفانيا، وهو مشارك مواظب في عدة مواقع مختلفة]