مستقبل الصحافة المحليَّة يزدادُ قتامة

بانوراما 2020/04/23
...

مارغريت سوليفان*  ترجمة: مي اسماعيل
 

أما “غانيت” و”غيت هاوس” وهما من أكبر سلاسل الصحف، فواصلتا إجراءات الاندماج؛ وهو تطور يعني (بصورة شبه مؤكدة) المزيد من التخفيضات بعدد موظفي غرف الأخبار التي تقلصت بالفعل. ثم جاءت المزيد من الاخبار المروعة؛ إذ تقدمت مجموعة صحف “ماكلاتشي-McClatchy” (وهي واحدة من أكبر ناشري الصحف ومالكة صحيفة “ميامي هيرالد” من بين أخريات) بطلب للحماية من الافلاس تحت وطأة الديون الثقيلة. وعن هذا يعلّق “جويل كابلان”، استاذ الصحافة بجامعة سيراكوز الاميركية قائلا: “مرت العديد من الايام الحزينة على عالم الصحافة خلال السنوات القليلة الماضية؛ لكن هذا قد يكون أكثرها حزنا”.
 
دعم الصيغ القديمة
ليس من قبيل المبالغة القول انَّ قطاعات واسعة من صناعة الصحف الأميركية قد دخلت دوامة الموت؛ إذ أغلقت واحدة من كل خمس صحف أبوابها منذ العام 2004، وانخفض عدد العاملين بالصحف الى نحو النصف. ومع ذلك تتمتع الصحف المحلية بثقة جيدة نسبياً، كما أنَّ الفراغ الذي تخلفه بتلاشيها يسمح بانتشار معلومات خاطئة. على هذه الخلفية جاءت أبحاث جامعة “ديوك- Duke” لتكون مزعجة للغاية ومشجعة بشكل غريب في آنٍ واحد؛ والتي لخصها تقرير “مختبر نيمان-Nieman Lab” (التابع لمؤسسة نيمان للصحافة بجامعة هارفارد. المترجمة) تحت العنوان التالي: “الصحف المحلية تعاني؛ لكنها ما زالت (الى حد كبير) أكثر منتجي الصحافة أهمية في مجتمعاتها المتنوعة”. وجدت الدراسة في مئة مجتمع على امتداد الولايات المتحدة أن.. “الصحف المحلية أنتجت تقارير محلية في المدن والمناطق التي درسناها أكثر مما فعل التلفاز والراديو والمنافذ الصحفية عبر الانترنت فقط مجتمعين”. 
يقول “فيليب نابولي” (استاذ السياسات العامة بجامعة ديوك وأحد محللي الدراسة) أن تلك النتائج فاجأته: “حينما نبحث عن تقارير محلية فعلية وأصلية تسد الحاجة للمعلومات الهامة، فان الصحف المحلية ما زالت (والى حد كبير) هي المصدر الأساسي”. وهذا ما يدفعه للتفكير بأن على صانعي السياسة والداعمين والممولين الآخرين اعادة تقييم أولوياتهم، التي تميل للتركيز على المنظمات الإخبارية الرقمية فقط في المجتمعات. ورغم إن هذه الاخيرة (كما يرى) واعدة بطرق شتى وسريعة النمو؛ فان تلك المنظمات الأكثر حداثة وفرت عام 2016 نحو عشرة بالمئة فقط من التقارير المحلية الاصلية في المجتمعات المئة التي شملتها الدراسة؛ واسترسل نابولي قائلا: “انها ليست بالفكرة التي تلاقي شعبية؛ ولكن ماذا لو كان التصرف الأكثر فاعلية للمحافظة على الصحف المحلية هو دعم الصيغ القديمة؟”
هذا أيضا ما طرحته “كريستين روبرتس” نائبة رئيس مؤسسة ماكلاتشي لشؤون الاخبار؛ إذ قدمت تصورا تفصيليا للعمل الهام الذي تقوم به غرف الأخبار بمؤسستها، والذي تنوي الاستمرار به خلال مرحلة اعادة التنظيم تحت شروط الحماية من الافلاس. استشهدت روبرتس هنا بالتحقيق الذي أجرته صحيفة “كنساس سيتي ستار” عن نظام الرعاية الاسرية البديلة “foster-care” (= الرعاية المؤقتة للقاصرين حتى بلوغ سن الرشد. المترجمة)، والذي كشف عن..”جيل من اليافعين الذين يشبون خارج الضوابط العامة دون اكتساب المهارات ولا الدعم اللازم للحياة بمفردهم”. واشارت أيضا الى جهود صحيفة “ميامي هيرالد” وتغطيتها الرائدة المستمرة لقضية اتهام “جيفري ابستاين” للاتجار بالجنس. وواصلت اعطاء أمثلة من أرجاء الولايات المتحدة؛ عن تحقيقات مهمة تجريها صحف محلية عديدة.
 
مقاربات فكرية جديدة
هناك من يعتقد أنَّ جميع شركات الصحف تقريبا (حتى بصيغتها المطبوعة والرقمية) باتت قضية خاسرة. وأحد هؤلاء هو “تشارلي منغر-Charlie Munger” (المستثمر ورجل الاعمال الاميركي، وذراع “وارن بوفيت” اليمنى).  أوضح منغر رأيه مؤخرا؛ قائلاً (وفقا لصحيفة “الفايناشيال تايمز”): “العائدات ترحل بعيدا والنفقات تبقى؛ وجميعها تموت.. ولا يوجد شيء يمكن القيام به”.
تقول كاتبة المقال: “بعد قضاء العقود الثلاثة الأولى من مهنتي الصحفية في إحدى جرائد “بوفيت” وهي “ذا بافيلو نيوز”؛ لا أجد نفسي راغبة بقبول ذلك الرأي. 
وحتى الآن ما زالت غرفة أخباري القديمة (التي تناقص كادرها الى النصف تقريبا عن أيام الذروة) تقوم بعمل بالغ الأهمية؛ وليس فقط صحافة المراقبة الحاسمة التي تتبادل أخباراً داخلية من أحد أعضاء الكونغرس، بل تقدم التغطية الثقافية التي تربط نسيج المجتمع معاً”. فما الذي يمكن عمله في خضم سيناريو الكابوس المالي هذا؟
يعتقد نابولي من جانبه ان على المواطن الاميركي والمفكرين الكبار أن يركزوا سريعا ويتعاملوا بجدية مع التغييرات السياسية الجوهرية التي يمكن أن تؤثر في استمرار (أو غياب) التمويل العام المباشر وغير المباشر للصحافة المحلية؛ قائلا: “هذا سيأخذنا باتجاه أكثر “أوروبية”..”. وتلك الفكرة، التي كانت يوما محظورة في الصحافة لأنها تبدو مثل تهديد لاستقلالية المؤسسات الاخبارية؛ يجب أن تؤخذ الآن بجدية. درس “نيكولاس ليمان” (العميد السابق لمدرسة الصحافة بجامعة كولومبيا) هذا الموضوع ضمن دراسة نشرت حديثا، وكتب ان صحافة الخدمة العامة؛ بغض النظر عن موقع وكيفية انتاجها.. “تحتاج الى نظام دعم خارجي والا ستختفي..”. 
وخلص الى.. “الحاجة لوجود مجموعة جديدة متكاملة من الترتيبات، وطريقة تفكير جديدة لحل الأزمة الحالية”. تكشف العناوين الصحفية المنشورة مؤخرا وبوضوح تعمق تلك الأزمة يوميا؛ لكن الصحافة أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ لذا فلا وقت يجب اضاعته لمنع موتها.. 
 
* صحيفة واشنطن بوست
 الأميركية