حكمت البخاتي
الوباء حالة فاصلة في تاريخ الدول والحضارات وينسحب الفصل فيها الى الأنظمة المعرفية التي تكون على عتبة تغيير جوهري بفعل سلطة الأثر أو التأثير الذي يصنعه الوباء، فالسؤال البشري يكون جاهزا في مثل هذه المناسبات الكونية والجائحات العالمية ومادة السؤال تتكثف حول جدوى الأنظمة التي تُسيّر حياته وعالمه، وعلى تعدد هذه الأنظمة من السياسية والاقتصادية والمعرفية تتشكل طبيعة هذا السؤال البشري، وغالبا ما يأخذ صيغا احتجاجية وأخرى باحثة عن البدائل في تكوينات هذه الأنظمة ومكامن عدم القدرة أو صمتها بإزاء مواجهة جائحة الوباء، وهنا تتكون البداية في العتبة الفكرية الجديدة وهي تنسج إجاباتها في النقد الى القائم والموروث من الأنظمة بصيغها الثلاث السياسية والاقتصادية والمعرفية، وحين كلَّت دول وحضارات عن تجاوز هذه العتبة من السؤال البشري أو هذه العتبة الفكرية النقدية فإنّها سقطت وانهارت.
وهنا يحدثنا التاريخ القديم عن مدينة أثينا وسقوطها المدوي وهي في ذروة انتصاراتها وقوتها في القرن الخامس قبل الميلاد بعد ان حاصرها الوباء ولم تمتلك القدرة على تخطيه وتجاوزه، وكان الكاتب المسرحي الاغريقي سلوفكس في مسرحيته "أوديب ملكا" يحمل النظام السياسي مسؤولية إنهيار أثينا بإزاء المواجهة مع جائحة الطاعون وهي تخوض المواجهة الحربية مع طروادة وتحمل فكرة نقد الملك الاسطوري أغمانون في هذه الحرب في الألياذة بأنه لا يعرف ما قبل وما بعد تحمل دلالة رمزية على نقد الأنظمة المعرفية بعد الجائحات في العالم.
وفي التاريخ الوسيط ينقل لنا المؤرخ الأوروبي فشر أخبارا تدل على عمق التحول السياسي والاجتماعي والفكري في أوروبا على أثر جائحة الطاعون في القرن الرابع عشر الميلادي، والذي أطلق عليه الوباء الأسود أو الموت الأسود وقد فنى ربع سكان أوروبا في هذه الجائحة ورغم تشكيك فشر بهذا الرقم إلّا أنّه يعتقد أن الوفيات بلغت مقياسا هائلا، وقد حركت هذه الجائحة وفق رأيه سلسلة من التغيرات التي وضعت أوروبا على عتبة التغيرات الفكرية.
فقد ظهر فساد النظام الاداري لعدد من المؤسسات في دول أوروبا، وانكشف فشل النظام الصحي رغم إباحة البابا للأطباء باستخراج الجثث المصابة لغرض تشريحها ودراستها إلّا أنّها لم تؤتِ بثمارها العلمية والصحية، وفي النظام التعليمي حلت اللغة الانكليزية في بريطانيا محل الفرنسية في المدارس وظهرت طبقة جديدة من المعلمين، بل شملت سلسلة التغيرات هندسة البناء والعمران، وحل الطراز المتعامد محل الطراز القوطي، وفي النظام الاقتصادي والاجتماعي استبدل نظام الخدمة بالحقول وهو نظام القنانة بنظام الأجور النقدية مما مهّد لاحقا الى إلغاء نظام القنانة وسُنت قوانين تنظم أجور الفلاحين وسائر العمال، وبذلك شهدت النظم الاقتصادية حالة من التطور غير المألوف في أوروبا أو في العالم كله فأثرت هذه العوامل الاقتصادية في اضعاف الأنظمة الاقطاعية، وفي إثر تلك الجائحة العالمية سقطت دولة فرنسا على يد القوات الانكليزية وانتشرت الحروب والثورات في اوروبا للتعبير عن انهيار ملازم للأنظمة السياسية في أعقاب الجائحات الكبرى التي تضرب الدول والمجتمعات الكبرى. ويرى عالم الاجتماع جاك أتالي في مقال كتبه بعد جائحة فيروس كورونا أن التحولات نحو الدولة الحديثة تكونت في آثار هذه الجائحة في القرن الرابع عشر الميلادي عندما فقدت الكنيسة بعضا من سلطتها لصالح رجل الدرك؛ لأنها لم تمتلك القدرة على مواجهة هذه الجائحة، وكان نجاح رجل الدرك في هذه المواجهة وبما يرمز له لصالح سلطة الدولة في قبالة سلطة الكنيسة.
لكن فشر يتحدث عن مطلع عصر جديد مزاجه، كما يقول الدولة القومية في هذا العصر بالذات بتأثير حروب المئة عام في أوروبا وبتأثير الانقسام بين الملوك والبابوات حول السلطة وحقوق الملكية، وليس بتأثير جائحة الطاعون التي وافقت في حدوثها هذه الحرب المئوية والشهيرة في تاريخ أوروبا الوسيط وهي الحرب المصيرية التي رسمت خطوط وحدود الدولة القومية في قارة أوروبا، بينما يرى جوزيف شتراير في كتابه "الأصول الوسيطة للدولة الحديثة" أن الدولة الحديثة بدأت معالمها تظهر منذ القرن الحادي عشر الميلادي الى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، أي أنها بدأت بالتشكل قبل جائحة الطاعون خلاف ما يذهب اليه جاك أتالي لكن شتراير أشار الى آثار الطاعون الأسود الذي ضرب أوروبا حتى العام 1400 م ومن أهمها انعدام الأمن الجسدي والاقتصادي وانعكاساته في الاستقرار السياسي، فقد تسبب بإزالة حكومات محلية وبثورات وحروب أهلية وأوضح مناحي الضعف في أنظمة الدولة لاسيما في المعارف والتقنيات كما يقول.
ويبدو أن الباحثين والمؤرخين يتفقون على التأثيرات الجوهرية التي تتركها الجائحات في البلدان أو القارات التي تجتاحها، وأهم هذه التأثيرات هو ما يتعلق بالأنظمة المعرفية وقضايا الفكر وموضوعات العقل وتكون اللحظة الأولى في عتبة الفكر ما بعد الجائحة هو النقد الذي تتعرض له المؤسسات كافة وأنظمتها السياسية والاقتصادية والمعرفية، وفعل النقد كممارسة عقلية تؤسس لنظام معرفي جديد يقوض النظم المعرفية السائدة قبله من أجل خلق عالم جديد بمعارف جديدة وأفكار أكثر حداثة وبذلك يكون مهيّأ لمواجهة الأزمات ومتعافيا صحيا بوجه تهديدات الأمراض وعواقب اختلال نظام الطبيعة الذي تتسبب به أعمال الانسان وعدم احترامه لنظام الأمومة في معاملة الطبيعة، فالملاحظ تاريخيا أن كل الجائحات واهوال الأمراض المعدية انتشرت في أثناء الحروب الكبرى أو الأزمات السياسية العالمية التي يبدأ جذوتها الانسان ويصنع مأساته.