عبد الامير المجر
كان (مالك بن دينار)، المتصوّف الذي عاش في عصر الدولة الامويّة، معروفا بين الناس بنزاهته وتعفّفه، وبسبب هذا كانت توكل اليه مهمة توزيع اموال الزكاة.. في احد الايام وبينما هو جالس في مكان قريب من محل، لرجل حدّاد، شاهد مالم يصدقه عقله.. لقد كان الحدّاد يمسك بالحديد الحامي، وهو مازال احمر متوهّجا، بيديه العاريتين ويطويه كيفما يريد!
انطلق (مالك بن دينار) باتجاه الرجل مدفوعاً بفضول لا يقاوم ليعرف سرّ هذا الامر المحيّر، لكن الرجل أبى للمرة الاولى ان يشرح له السبب، وأصر (مالك بن دينار) على معرفة السبب، فما كان من الرجل الحدّاد إلّا أن يرضخ لطلبه ويقصّ حكايته.
في إحدى الأيام، جاءت امرأة أرملة وطرقت باب الحدّاد، تطلب خبزاً لأطفالها الايتام الجياع، فعرض عليها الخبز مقابل شرفها، فأبت وغادرت المكان منكسرة تجوب الطرقات وتدقّ الأبواب من دون أن تحصل على مرادها، وبعد أن يئست عادت الى الحدّاد وأخبرته موافقتها على طلبه الدنيء، فأدخلها البيت وأغلق الأبواب، لكنّها قالت له إنّ هناك بابا لم تغلقه، عاد الرجل وتفحّص الأبواب فوجدها كلّها مغلقة، وأخبرها بذلك لكنّها كررت الطلب .. هناك باب في البيت لم يغلق .. وهكذا صار يؤكّد لها غلق الأبواب، وتؤكّد هي على (الباب غير المغلق)، حتى سألها عن مكان هذا الباب الذي تظن أنّه مازال مفتوحاً، فأجابت، إنّه باب السماء، حيث عين الله التي لاتحجبها كلّ أبواب الأرض!!
اِقشعرَّ جسد الرجل الحدّاد وانهمر الدمع من عينيه، وقال لها لم أكن أعرف أنّ في داخلي كل هذه النذالة! ثمّ أعطاها ماتريد من دون أن ينال من شرفها، الذي صانته بإيمانها بالله وحكمتها، وعندها دعت اليه من صميم قلبها، أن يعصمه الله من النار في الدنيا والآخرة.. ومن ذلك اليوم والرجل يتعامل مع الحديد الحامي كما لو أنه أعواد شجر أخضر!
في زمننا الذي يضجّ بالنفاق للاسف الشديد، كثر الذين يتحدثون عن الايمان وعن القيم، ومخافة الله، حتى صارت المراءاة ستارا دينيا زائفا وثقيلاً على أجساد الناس ونفوسهم وأرواحهم، لاسيما في رمضان، بينما ينبغي أن تكون قيم الدين القويم في قلوب المؤمنين به وتعكسها النفوس، بعيدا عن الاهواء العابرة والمصالح الانانية الضيقة، لتضاء طرق الحياة بالفضيلة والخير والمحبة، ولو بقدر نسبي بين الناس.. لقد ازدادت تحت ضغط النفاق الذي يخنقنا منذ سنين، الفوارق بين الاغنياء والفقراء، وزاد المعدمون وانتشر ظلم الانسان لأخيه الانسان، في بلد يمتلئ بالخير والثروات، وصار التثقيف على الاستئثار والبغضاء منهجاً للكثيرين من الساسة وأولياء الأمور، هدفهم تفريق الناس، من خلال دعوات التقسيم والحديث عن مغانم، ينبغي ان تكون من حصة هذه المنطقة او المحافظة وحدها، وكأنّنا لم نكن يوماً بلداً واحداً تقاسمنا السراء والضراء، وعشنا جميعاً تحت ضغط حصار إجرامي لم يرحم غالبية هذا الشعب المظلوم، الذي فتك به الجوع والامراض والحرمانات الكثيرة، وصار الناس يبحثون عمن يعوّضهم زمنهم الضائع وأعمارهم المسروقة.
ياليت بعضا من ساسة اليوم، يملك شيئا من إيمان تلك المرأة التي دعت فاستجاب لها الله، وياليت بعضا من ساسة اليوم يملك شيئا روح ذلك الحدّاد، الذي خشي الله حقا، فانهار أمام الحقيقة التي اضاءتها بداخله تلك المرأة، حين اشارت اليها، من خلال الباب المفتوح، فكسرت الباب الأسود الذي كان يحجب قلبه عن نور الله... الحقيقة الوحيدة التي مازالت وستبقى هي أنّ أطفال تلك المرأة المؤمنة والعفيفة، هم أطفالنا اليوم، مثلما كانوا غداً وفي المستقبل، وهم وحدهم الذين سيبقون شهوداً على كل الحوادث والاحداث، لأنهم وحدهم من كانوا ومازالوا ضحاياها..
للأسف!