قصص في التربية على الدولة المدنيَّة ( 2 – 2)

آراء 2020/04/26
...

د. عامر حسن الفياض
(7)
قصة سلطة المعرفة 
إنّ السلطة بوصفها قوة او نفوذا او امرا ونهيا او طاعة او تأثيرا ارتبطت وجودا بوجود التجمع عبر عصور التاريخ الانساني.
وقد توزعت أصول ومصادر شرعية السلطة مابين اصل غير ارادي غير انساني للسلطة عندما يكون القابض على السلطة إلها او وكيلا للآلهة او مفوضا منها، وبين اصل ارادي انساني للسلطة عندما يكون القابض على السلطة مستمدا شرعيته من  الشجاعة والانتصار في الحرب والاستيلاء عليها بالقوة او بالرضا على اساس السنّ او الحكمة او البيعة او الاستفتاء او الانتخاب. 
وقد شهدنا سلطة القوة وسلطة الثروة على مر العصور بيد ان نهايات عصرنا الحاضر وبدايات العصر الآتي المعولم تشهد اكتساح سلطة المعرفة وغلبتها المتوقعة على سلطتي القوة والثروة. وعليه فإنّ الشعوب العاقلة عليها ان تفكر جيدا وتعمل جيدا من اجل انتاج المعرفة وامتلاك المعرفة واحتكار المعرفة لأن المعرفة بالامتلاك والانتاج والاحتكار هي التي ستجلب القوة والثروة والعكس ليس صحيحا دوما. وتلك القصة هي قصة المستقبل لمن يعشق المستقبل وليس لمن يعشق العيش والاعتياش بالماضي او المراوحة بالحاضر، والمعرفة طاحونة تطحن من لايمتلكها وينتجها ويحتكرها.
 
(8)
قصة العراق الصح
في مجتمعنا المعاصر كما في المجتمعات المتحولة، يتم توظيف الآليات الانتخابية لصعود أعداء الديمقراطية الى سدات الحكم والسلطة، لتصبح هذه الآليات آليات حق يراد بها باطل! 
ومن العلامات الفارقة لمرحلة التحول المعاصرة أنّ كل واحدة من بلدان هذه المجتمعات المتحولة تريد إقامة ديمقراطية بمغادرة الدولة الوطنية او الابقاء على كيانها السياسي او الخروج به الى كيانات سياسية مبعثرة.
أي أنّ المتحولين يريدون اقامة "ديمقراطية" بلا ديمقراطيين، بينما لا يمكن ان تؤكد لنا التجربة الانسانية، تاريخيا، قيام ديمقراطية بلا دولة وطنية.
إذ أنّ الدولة قد تنشأ بلا ديمقراطية، بيد ان الديمقراطية لا يمكن ان تبنى وتستمر بلا دولة وطنية.. دولة لها هيبة وقوة متأتيتان من حكمها بالقانون المنبثق عن سلطة تشريعية منتخبة يدير مؤسساتها الدستورية رجال دولة لا رجال سياسة فقط!
أما المشاركة السياسية بوصفها جوهرة من جواهر الديمقراطية فإنها في معظم هذه المجتمعات المتحولة "ومنها العراق" تحولت من علاقة تعامل سياسي تنافسي بين شركاء الى علاقة تحدي ونصب شراك بينهم على منوال علاقات الصراع والتشفي والتطير بين الزوجات المتعددات لزوج واحد (علاقة شرايج)!
وفي هذه المجتمعات المتحولة اصبحت التعددية غير منسجمة لأنها منصهرة قسراً في (كل واحد) لتصبح، بعد التحول واثنائه، تعددية منفلتة غير منسجمة تحكمها المحاصصة وتوزيع الغنيمة على أكثر من (كل) على طريقة الشاعر الذي يقول (قومي رؤوس كلّهم أرأيت مزرعة البصل)!
وعلى وفق هذه العلامات السلبية تسير عجلة السياسات فلا يستقيم وطن ولا تتبلور دولة وطنية. فهذا العراق الذي يحاول الانتقال من كيان او كيانات سياسية ما قبل الدولة الى دولة وطنية كيما يكون عراق الصح، فإنّ كلّ تحول ديمقراطي فيه ينبغي ان لا يفسّر إلّا بوصفه مساراً أدواته تعددية حزبية وتحالفات سياسية لان الديمقراطية من حيث المبدأ ليست عقيدة نناصرها مقابل من يناهضها، ولا هي مذهب نقدّسه مقابل من يدنّسه، ولا هي ايدولوجيا نتقاتل من أجلها ضد من يتقاتل ضدها، ولا هي آليّة نتوسّل ادواتها لنتسلّق السلطة مرة ونتخلّى عن ادواتها مرة اخرى كي لا ننزل عن منصات التسلّط. بمعنى آخر ان الديمقراطية منظومة فكر وممارسة متكاملة تضمّ وتؤطر التنوعات وتعمل ضمن حركة تحالفات ومسارات تحسن ادارة التنوعات، وعلى اساس ذلك فإنّ تلك المنظومة الحركية لا يمكن ان تكون جزءا من نشاط حزب سياسي ولا يمكن ان تجيّر باسم حزب، ولا يمكن ان تكون ملحقا بحزب ولا واجهة جانبية او خلفية لحزب.  
وفي سياق استكمال مواصفات العراق الصح نقول: إنّ العراق الصح هو عراق الدولة وليس عراق ما قبل الدولة ...وعراق المصلحة الوطنية وليس المحاصصة الجهوية، وعراق الديمقراطية المؤطرة بالاستقلال الوطني وليس عراق الاستقلال الملوز بالديمقراطية وليس عراق الديمقراطية المطعمة بالسيادة، وعراق الاتحاد الصاعد للوحدة وليس عراق الوحدة المعدومة الهابطة للاتحاد، وعراق المسؤول الباني التكميلي وليس عراق المسؤول الهدام التصفيري، وعراق مأسسه المناصب لا تنصيب الاشخاص ... وعراق يخاف فيه الفاسد لا عراق يخاف من فاسد، وعراق منخرط في قضايا العدالة والحرية لا عراق ينأى بنفسه عن قضايا العدالة والحرية لشعبه ولكل الشعوب، وعراق نريد وطن لا عراق نبيع وطن، وعراق يستحضر الماضي للتذكير بحسناته ومغادرة سيئاته لا عراق يسترجع الماضي ليعيش به ويعتاش منه، عراق احياء يعمل لمستقبل احياء لا عراق احياء يحكمهم اموات، عراق يعرف حكامه ثقافة الاستقالة لا عراق تعشعش في عقول حكّامه ثقافة الاستطالة، وعراق يفهم التاريخ ويتفهم الحاضر ويعشق المستقبل لا عراق يعيش التاريخ ويراوح في الحاضر ويكره المستقبل، وعراق ينظر الى تنوعاته من ابواب العراق الواسعة وليس عراقا ينظر اليه من ثقوب تنوعاته الجهوية المذهبية والعرقية والمناطقية الضيقة. 
وأخيرا العراق الصح هو عراق التوأمة، ان لم نقل عراق الزواج الكاثوليكي بين الاستقلال الوطني والديمقراطية على مستوى التعامل مع الخارج بعد أن يتطهّر من وساخة الوجود العسكري الاجنبي بالرحيل عن أرضه عموديا وإلّا سيكنس أفقياً، على ان يتلازم تحقق هذا الرحيل مع طلاق العراق الابدي من المحاصصة المقيتة والفساد الوسخ.