عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله.. هذه العبارة هي الأكثر شيوعاً من سواها في أدبيات الكتابة عن الوباء، وهي عبارة تنطوي على استشراف للمستقبل بتوقعات قد يصدق بعضُها ويكذب بعضها الاخر. فالمعطيات التي تأتي تباعاً من خلال الاحصائيات عن المرض اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وعسكرياً لها مبرراتها في دقة ما يمكن ان يتخيله المرء في جائحة نادرة الحدوث بعد الشوط الحضاري الذي قطعته البشرية في غربها الشاسع وشرقها الطويل. وما نعنيه بالشوط الحضاري هو مقدار وحجم البنى التحتية المعقدة التي توصل الانسان الى بنائها وفق معايير معاصرة وجديدة واحيانا مبتكرة. وهي في نهاية المطاف متطورة عن القرون التي شهدها عمران البشرية. وان حدوث مثل هذا الوباء في هذه البيئة النظيفة نسبياً أمر محيّر بالفعل. الملفت للنظر في هذا الصدد هو التوجه الشخصي لسكان الكرة الأرضية بعد قرون من الاجتماع والتشارك في الحياة والعمل واللهو والسياحة والصراع، سواء كان صراعاً بين الشعوب وحكامها ام كان بين دول بعينها – التجمعات الحربية التي تتطلّبها الحرب – مثلا، وصولا الى صراعات القبائل وصراعات الناس في كل مكان وزمان.. اذ ينتهي كل ذلك الى توجه شخصي تذوب وتضمحل فيه مظاهر التشارك بصورة عجيبة وغير متوقعة على الاطلاق. كل أمرئ في همه الشخصي وبوحه الشخصي واحلامه الشخصية، بل في عباداته وتأملاته ورؤاه بطريقة شخصية لايشاركه فيها احد!!، وكذا الحال في التوجه الشخصي لطريقة تعامله مع روحه وجسده وقد خلا اليهما بعزلة مفروضة ومستبدة بمصيره وطريقة عيشه في الحياة. هذه المسألة لايمكن عبورها بالإنشاء العابر الذي نتحدث فيه عن زمنين مختلفين ومتقاطعين: زمن ماقبل الكارثة وزمن ما بعدها،.. فالتوجه الشخصي في العزلة على سبيل المثال ستقابله تنظيرات علماء الاجتماع الذين انبثقت لديهم عناوين التحضر انطلاقا من تقاليد العزلة، "العزلة" باعتبارها سمة بارزة من سمات المجتمعات المتحضرة..، يعيش المرء في عزلة ووحدة طيلة حياته، ولايتشارك مع الناس إلا في مناسبات العمل والاحتفاء والتسوق والمشفى او ساحات الرياضة، وهو تشارك له صفة الوجود والتعاضد لا صفة الاختلاط الشعبوية في واحدة من وجوهها..الكارثة توصيف عميق لما ينتج اليوم عن هذا الوباء الخبيث الذي يزعزع القناعات في ممكنات السلام والعيش بكرامة وفق استحقاقات معروفة لكل من الشعوب والأمم، لكنها كارثة يستعيد الناس في الشرق والغرب تداعياتها بشكل يومي بسبب من مجهولية بقائها او زوالها، وهي قضية لاتربك الانسان فحسب، انما تعرضه الى هزات عصابيّة تتناغم مع غيبيات هذا المرض الباطني والسري الغريب.المرء في الشرق الاوسط شعبوي حد النخاع، حتى في نخبويته التي تضعف ازاء مشاهد الحميمية الاسرية والاجتماعية وهواجس وتداعيات تأثير المثيولوجيا بطبيعة الحال، بينما يغط العالم في سبات العزلة الشخصية منذ امدٍ بعيد. أوروبا ليست بلدانا تفور في التصارع الاجتماعي او الهوس الاجتماعي الشعبوي، لأنها قارّة وراسخة في تقاليدها وفي طريقة عيشها، بل وفي طريقة هيمنتها الاستعمارية على شعوب الارض منذ الكولونيالية وتحولات ما بعدها.. القضية في ما بعد كورونا ستكون قضية الشرق بتداعياتٍ لا حصر لها، فهذا الشرق الاجتماعي في كل ما يحيطه من تفاصيل سيكون عرضة للأسئلة الكونية المخيفة التي أودت بأحلامه وتطلعاته وثرثراته الطويلة التي يدمنها، أعني سيأخذ هذا الفيروس المدى الصوتي والانشائي الذي يستحقه، ولن يكون ذا اثر على اقتصادياتنا التي سرعان ما تعود الى العبث والتيه نفسه.. اثرها الوجداني سيكون طاغيا، بينما يتفاعل اثرها الحكائي كلما سنحت فرصة لتداوله وتفسير ظواهره الغامضة والعجيبة .. ولا غرابة في ذلك أبدا.. ثم ألسنا أمة صوتية تعيش الكلام وبلاغته منذ الجاهلية؟.. ان ماقبل كورونا مفهوم ومحدد بالأرقام والوثائق، لكن ما بعدها وفق رؤيتنا الشعبوية سيكون صوتاً ونواحاً طويلا للغاية..