لا يوجد شهر آخر يماثل شهر رمضان، فهو خير شهر يقف فيه الإنسان مع نفسه متدبراً متأملاً، ففيه «تتضاعف الحسنات، وتمحى السيئات» كما روي عن رسول الله (ص)، وفي هذا الشهر فرصة كبرى للحصول على مغفرة الله «إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم» كما في الحديث النبوي الشريف، وفي رواية أخرى: «من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله» وورد أيضاً عنه: "فمن لم يغفر له في رمضان ففي أي شهر يغفر له".
وقد يغفل البعض عن أن حصول تلك النتائج هو بحاجة إلى توجه وسعي، فهذا الشهر ينبغي أن يشكل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة للذات، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب، وبقية الشهوات التي يقوم بها يومياً، فإنه يكون قد تخلص من تلك المواقف، مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه، وتأتي تلك الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية، لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الكريم، فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع الله. وقراءة القرآن الكريم التي ورد الحث عليها في هذا الشهر المبارك، فهو شهر القرآن يقول تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن..﴾ وفي الحديث الشريف: «لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان»، كما ورد أن «من تلا فيه آية كان له مثل من ختم القرآن في غيره من الشهور».
هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته، ومكاشفتها وتلمس ثغراتها وأخطائها، لكن ذلك مشروط بالتدبر في تلاوة القرآن، والاهتمام بفهم معانيه، والنظر في مدى الالتزام بأوامر القرآن ونواهيه. فقد روي عن الإمام علي (ع): «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر». «تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبلغ العبر».
لقد تعود البعض من الناس على أن يقرأوا القرآن في شهر رمضان، وهي عادة جيدة، لكن ينبغي أن لا يكون الهدف طي الصفحات دون استفادة أو تمعن. وإذا قرأ الإنسان آية من الذكر الحكيم، فينبغي أن يقف متسائلاً عن موقعه مما تقوله تلك الآية، ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه، وللتغيير في سلوكه، ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة
القرآن».
وبذلك يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته فالقرآن كما وصفه الله تعالى ﴿َشِفَاءٌ لِمَا فِي
الصُّدُورِ﴾ .
والأدعية المأثورة في شهر رمضان، وأدعية الأيام والليالي، كلها كنوز تربوية روحية، تبعث في الإنسان روح الجرأة على مصارحة ذاته، ومكاشفة نفسه، وتشحذ همته وإرادته، للتغيير والتطوير والتوبة عن الذنوب والأخطاء. كما تؤكد في نفسه عظمة الخالق وخطورة المصير، وتجعله أمام حقائق وجوده وواقعه دون حجاب.
وينبغي أن يراجع الانسان نفسه بين فترة واخرى والتأمل الذاتي بأن يراجع أفكاره وقناعاته، ويتساءل عن مقدار الحق والصواب فيها، ولو أن الناس جميعاً راجعوا أفكارهم وتوجهاتهم، لربما استطاعوا أن يغيروا الأخطاء والانحرافات فيها، غير أن لسان حال الكثير من الناس ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ وليكن الإنسان حراً مع نفسه، قوياً في ذاته. إذا اكتشف أنه على خطأ ما، فلا يتهيب أو يتردد من التغيير والتصحيح.
كما يحتاج الانسان لأن يراجع الإنسان مواقفه وليطرح الإنسان على نفسه عدداً من الأسئلة التي تكشف عن شخصيته، مثل: ماذا سأفعل لو قصدني فقير في بيتي؟ وكيف أقرر لو تعارضت مصلحتي الشخصية مع المبدأ أو المصلحة
العامة؟
وتأتي أهمية هذه المراجعة في أن الإنسان ينبغي أن يقرر بعدها أن يصلح كل خلل نفسي عنده، وأن يعمل على تطوير نفسه، وتقديمها خطوات إلى الأمام. وعليه ان لا يغفل مراجعة سلوكه مع الآخرين، بدءاً من زوجته وأطفاله، مروراً بأرحامه وأصدقائه، وسائر من يتعامل معهم أو يرتبط بهم.
وهذا الشهر الكريم هو خير مناسبة للارتقاء بالأداء الاجتماعي للمؤمن، ولتصفية كل الخلافات الاجتماعية، والعقد الشخصية، بين الإنسان والآخرين، وقد حثت الروايات الكثيرة على ذلك. فهنيئاً لمن يستفيد من أجواء هذا الشهر المبارك في الانفتاح على ذاته، وإصلاح أخطائه وعيوبه، وسد النواقص والثغرات في شخصيته، فيراجع أفكاره وأراءه، ويدرسها بموضوعية، ويتأمل صفاته النفسية ليرى نقاط القوة والضعف فيها، ويتفحص سلوكه الاجتماعي، من أجل بناء علاقات أفضل مع المحيطين
به.