الكاظمية مدينتي.. دراسة وثائقيَّة

ثقافة شعبية 2020/05/10
...

جعفر عبد الأمير لبجة
 
 
نعم هي الكاظمية كما أودعها المؤلف الدكتور علي حسين صادق الطائي كل حبه وسماها الكاظمية مدينتي ومدينة كل من أفنى حياته من الأحياء والأموات أمام قبابها المذهبة التي تبهر الأبصار وتخشع لها القلوب.. المدينة التي أمها المؤمنون من أتباع أهل البيت من كل بقاع الأرض كما يأتيها السواح والمستشرقون ليمتعوا أبصارهم بتلك الهندسة العظيمة التي زين بها الضريحان المقدسان وليخرجوا منبهرين بتلك الفسيفساء والتراكيب الباهرة التي استلفتت انتباه كل العالم الإسلامي والعالم الشرقي والغربي... كيف لا والضريح يضم بين جنباته معصومين مطهرين شهيدين شهد بعلمهما اللامتناهي الأعداء من بني العباس قبل المحبين.
(الكاظمية مدينتي- دراسة وثائقيَّة عن الكاظمية وأحداثها السياسيَّة) للكاتب المذكور أعلاه بطبعته الأولى عام 2014- بغداد، والتي أولعتُ ولعاً شديداً بإهدائهُ الرائع الذي تصدر الكتاب، كما أنَّ المعلومات التي ذكرها في خاتمته كانت حقيقة ساطعة حول فقدان الكثير من الأحداث السياسيَّة التي تخص مدينة الكاظمية، إذ إنَّ القابضين على السلطة على مدى العصور أفنوا الكثير من الأحداث وإنْ تلطفوا فإنَّهم ما كانوا يبدون إلا وجهة نظرهم وهي بعيدة كل البعد عن محبي آل البيت وعن الحقيقة، هكذا كان بنو العباس وما تبعهم من طواغيت العصر يخشون أئمتنا الأطهار حتى وهم في قبورهم، فكيف كانوا وهم أحياء، لقد بدأ الكاتب الرائع كتابه بعبارة استفهاميَّة تدلُّ على بحثه الجليل وهي عبارة (هل عندك شك؟!).
وكانت استفهاميَّة غاية في المعرفة، إذ قال إنَّ مدينة الكاظمية لم تنشأ بأمر من سلطان أو حاكم وليس يحيطها سورٌ أو حجارة، وإنما قامت لتجاوز فخر الجيران الإمامين الكاظمين (ع) وهي بذلك تخالف كل بلدان العالم بما فيه العراق. ولقد عانت من الظلم والعدوان ما لا يمكن وصفه وكذلك عانت من الطائفية والأحداث السياسيَّة المقيتة منذ أعوان الشيطان من بني العباس أو من ولاة بني عثمان من سفهاء الغلمان وملوكهم الذين عاثوا في الأرض فساداً وحقداً وضغينة، ثم تلاهم الصبيان من رؤساء القهر والطغيان في العهد البعثي الذي كمم الأفواه وكان الموت حصيلة كل من يقيم مأدبة أو مجلساً حسينياً، إلا أنَّ مدينتي لم تستسلم لأولئك القتلة القساة فظلت شامخة أبيَّة وهي تَمخرُ عباب البحر وهي تنجب فخر الفرسان، فمنهم فيلسوف الفقهاء، وشيخ الأدب، ورائد علم الاجتماع والكثير في الاختصاصات الأدبيَّة والطبيَّة ومنهم كذلك الوزراء، وآباء القانون، وعلماء الذرة وأبطال عالم الرياضة، كذلك الفن والنحت.. إلخ.
إنها مدينة حيَّة بفضل المرقدين المقدسين، ولقد كانت تسمى قبل قدوم الإمامين (ع) بمقابر قريش، فاذا بها تنتعش بفضلهما وتصبح مدينة عامرة شامخة.
لا أستطيع بهذه العجالة أنْ أسردَ كل محتويات الكتاب الضخم فهو موسوعة ترتقي بمضامينها الى أدق التفاصيل وهذا يحسبُ للمؤلف المبدع الدكتور علي حسين الطائي الذي ارتقى بالكتاب الى قمَّة المعرفة فذكر في عناوينه نشأة الكاظمية وتطورها العمراني، كما ذكر سبب ترك الكاظميين مدينتهم من دون أسوار، كما تطرق الى طرقها البريَّة وعربات الترامواي والجسر الخشبي العائم، كما لم ينس ذكر أشهر الرحالة الذين مروا بها وكتبوا عنها وبيوتاتها وطرازها، ومن ناحية أخرى تطرق الى النشاطات الرياضيَّة والثقافيَّة ومراكز الإشعاع الفكري فيها- أما إبداعات علماء الكاظميَّة فقد ذكر المؤلف فطاحل العلماء المجتهدين كالسيد حسن هادي الصدر والسيد ابنه حسن الصدر كذلك أولاده علي الصدر والسيد محمد الصدر وهو من المؤسسين للدولة العراقية الحديثة، فضلاً عن أنه من زعماء ثورة العشرين ومن ثم أصبح وزيراً في العهد الملكي وتوفي سنة 1956، ومن أسرة الصدر الكبيرة السيد إسماعيل الصدر السيد حيدر الصدر، ومما لا بدَّ منه أنْ نذكره إنَّ السيد إسماعيل الصدر هو أخو السيد محمد باقر الصدر الفيلسوف الإسلامي المعروف الذي استشهد على يد مجرمي البعث في 9/ 4/ 1980 مع شقيقته العلوية الشهيدة بنت الهدى- وللسيد محمد باقر الصدر مؤلفات غنيَّة عن التعريف منها (فلسفتنا- واقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام). ومن أفذاذ الكاظمية الشيخ محمد رضا آل ياسين وله مؤلفات مجيدة كذلك الشيخ راضي آل ياسين، وهناك العلامة الشيخ الكبير محمد حسن آل ياسين وله مؤلفات في غاية الأهمية ستجدها قارئنا الكريم بين صفحات هذا الكتاب الثمين.
أما بيت الحيدري فقد أنجب العلماء المجتهدين نذكر منهم السيد مهدي الحيدري الذي عامر الشيخ مهدي الخالصي، أما ابن السيد مهدي الخالصي فهو الشيخ محمد الخالصي الذي انتهج نهج أبيه في مقارعة الانكليز وهنالك الكثير من جهابذة العلماء مثل محمد مهدي الموسوي الواعظ والعلامة المجدد هبة الدين الشهرستاني، أما في مجالات أخرى فهناك الدكتور العلامة حسين محفوظ والدكتور عالم الاجتماع علي الوردي وهو رائد علم الاجتماع بلا منازع، وله (لمحات اجتماعيَّة من تاريخ العراق الحديث) و(وعاظ السلاطين) و(شخصيَّة الفرد العراقي) و(خوارق اللاشعور) و(مهزلة العقل البشري)، إنني أستميح القارئ عذراً إنْ لم أتمكن من ذكر علماء الكاظمية الأفذاذ لضيق المقال، إذ إنني ابتعدت كثيراً عن حياة العلماء الذين ذكرتهم فلم أذكر مؤلفاتهم التي لا حصر لها وابتعدت عن الباقين ممن لم أذكرهم وهم كثرٌ فمن القانون الى الطب الى بقية العلوم، وإنكم لا شك ستعذروني، ولكن مما يشفع لي هو أنَّ المؤلف الكبير قد تناولهم بشيء من التفصيل الرائع، ولم يدخر وسعاً في إظهار مكانة العلماء من بيوتات الكاظمية وذكر مؤلفاتهم القيمة والتي ما زالت متداولة في المكتبات وإنني إذ أقدم قصري في تقديمهم لكنَّ عزائي هو أنَّ المؤلف الدكتور علي حسين صادق الطائي أعطى للكاظميَّة مكانتها وعنفوانها، إذ ما زالت هنالك أبوابٌ كثيرة لم أتطرق لها والحمد لله رب العالمين.