عدنان أبو زيد
لا يزال المثقّف العراقي مطالبا بعد فترة ارتهان طويلة لإرادة النظام الدكتاتوري السابق، بالانتقال من نشاط البيانات والسجالات النظرية والجدالات المفاهيمية الى دور عملياتي، يتمخض عن نتاج مادي في الشارع والمدرسة والمعمل والبيت، لا انْ يظلّ حبيس الخطاب السجالي في الصفحات التي يكتبها، والكتب التي تمتلئ بها الرفوف.المثقف العراقي، لا يزال بعيدا بمسافة عن التحولات الاجتماعية، والاقتصادية، وأقرب قليلا الى التطورات السياسية،
وأدنى أكثر الى ميوله الإبداعية التي يحتفي بها المقربون والأصدقاء وأعضاء الجمعيات الصغيرة التي ينتمي اليها، والسبب في ذلك ان الثقافة أصبحت لا ثوروية تغييرية، بل احتفالية ونخبوية، ينتمي اليها الفرد لإظهار تفرّده وتميّزه في انتمائه الى طبقة عاجية في التفكير والابداع، مثلما تنازلت عن كونها نمطا سلوكيا ومعيشيا متحضرا يسعى الى نشر الطرق المتجددة في العيش، والأساليب العلمية في التحليل والتعامل مع الأشياء والظواهر.
لهذا السبب ارتبطت الثقافة في العراق، بالشعر، والصحيفة، والكتابة، والتأليف، والظهور التلفزيوني، ومسك القلم حين التقاط الصورة، أكثر من تعلّقها بالسلوك الثوروي وميكانيكيات التغيير الاجتماعي والثقافي، وبالسلعة العصرية.
المؤتمر العالمي الخاص بآليات الثقافة الانسانية في مدينة مكسيكو العام 1982 ثمّن الانسان المثقف، في مهاراته في خلق الانقلابات المادية في المجتمع، بشكل شاخص وواضح، بالمقام الأول. تأتي بعدها المفاعيل الروحية التي يستقطب فيها المثقف، عامة الناس الى القواعد الخلاقة التي تمنح المجتمع سمة التميّز، ولم يتحدث المؤتمر عن أدوار غير هذه. اما الانشغالات بالموسيقى وتأليف الكتب والتحليل، فهي وسائل لا ينبغي للمثقف، التفاخر بها، الاّ اذا أسفرت عن واحدة من التأثيرات التي تحدث عنها المؤتمر.
هذه الأمر يلمس بشكل جليّ في العراق، إذ يثابر الأفراد على التأليف، بينما لا قرّاء لهم، ويتناوبون على الظهور على شاشات التلفاز في التحليل والسرد، كنجوم، لا أصحاب ثورة في التغيير، ومن دون ماكينات تحوّل أفكارهم الى واقع، لتكون النتيجة بكل وضوح جيلا شبه أمي، لم يتعلّم في المدرسة بالقدر الكافي، ولم يرفعه المثقف المنتمي الى مؤسسات وهيئات عن مستويات الضيعان الفكري في حياته اليومية. انّ من أكبر نتائج أفول المثقف، تفاقم الثقافات المضادة، وانتكاسة الوعي، وتدني التعليم الذي يستمد روحه من المعرفة العامة السائدة، التي إذا ما انحسرت، تدنى أيضا مستوى المعلم والمدرس والأكاديمي، باعتباره ملقّنا آليا، يملي على الطلاب ما دون الحضارة العصرية، وما أدنى من السلوك الحضاري، غارسا بذور الأمية الحضارية في عقول الجيل الذي يتعلم ولا يعي أو يتثقف، ولا ينصهر في تيار العصر. نلامس اليوم في المجتمع العراقي، نسخة الحضارة الحديثة civilization ، بكل أدواتها من انترنت ووسائل تواصل، وسلع ومنتجات، وبنايات وسيارات، لكن هناك غيابا واضحا للسلوك الحضاري والثقافي، الذي يسمو بالمجتمع الى
الاستقرار الفكري، والاجتماعي، ويميزه ككائن جمعي له ثقافته الخاصة التي يعتد بها.انّ تقوقع المثقف العراقي عن دوره، وافتقاره الى وسائل التأثير، جعل الحياة العراقية تنساق بسهولة الى مصادر الثقافات القوية المستوردة، التي تمتلك رموزا مادية وسلع ومنتجات عظيمة تجعل الفرد مؤمنا بها، لاهثا وراءها، وله الحق في ذلك، لانه لم يعد يرى تأثيرات لحضارة عراقية او عربية او إسلامية، بل لغزو ثقافات أميركية ويابانية وهولندية وكورية، نجحت في فرض نفسها على الكثير من الشعوب، بينما لا يزال مثقفنا يجتر حضارات بلاده القديمة من بابلية وسومرية وفرعونية، ويفرغها في كتبه وتحليلاته، بآليات مستوردة من الحضارات الفاعلة العصرية.