مغالطة نقدية وجناية أكاديمية
ثقافة
2018/12/28
+A
-A
د. نادية هناوي
ليس التنظير لمفهوم المتوالية بالجديد على النقد الغربي، فقد تحدث عنها نقاد غربيون، وأغلب تنظيراتهم تتعامل مع هذا المفهوم بوصفه اشتغالا تكنيكيا وليس نوعا أدبيا.
وبعد أن بزغت نظرية الانفتاح التي فنَّدت نظرية النوع الأدبي ودمجت الأنواع الإبداعية شعرا وسردا بعضها ببعض، لم تعد( المتوالية ) سوى صورة لتفتت الشكل السردي للنوع الأدبي بغية الوصول به إلى الوحدة والتماسك.
وكان روبرت لوشر في أطروحته للدكتوراه الموسومة( متوالية القصة القصيرة الإقليمية الأمريكية كتاب مفتوح) قد وقف عند مفاهيم ( المتوالية / قصة الرواية / الروفيلا أي رواية القصص المترابطة / توليفة القصص / مجمع القصة القصيرة / حلقة القصة القصيرة / كتاب الصورة) وقد ظهرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وهي تعود إلى نقاد غربيين منهم دالاس ليمون وسيلفرمان وبيلسنت ريد والدرمان وانجرام وغيرهم.
وهذه المصطلحات بمجموعها تعني بحسب لوشر مجلد قصص كان قد جمعه المؤلف ورتبه، لكن لوشر عد هذا المجلد كتابا مفتوحا يدعو القارئ لبناء شبكة من التداعيات تربط القصص مع بعضها بعضا، وتمنحها بعدا ثيماتيا متراكما، مؤكدا أن المصطلحات أعلاه توحي بالوحدة الساكنة لأجزاء مترابطة ومستقلة لكنها تفشل في الإشارة إلى أهمية طبيعة توالي القصص أو العناصر المتكررة التي تمنحها وحدة أكثر ديناميكية.
ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، لم يعد يطرح الحديث عن المتوالية؛ إلا في إطار التداخل الاجناسي وأبعاده الانفتاحية التي ترى المتوالية ستراتيجية تدخل ضمن النشاط الذاتي للقارئ، وقدراته في صنع النموذج للارتباطات والاستمرارية النصية والعلاقات التكاملية بين الشخصيات كي نقرأ القصص وكأنها متوالية.. علما أن التنظير للمتوالية كان عرضيا عندنا، وقد جرّبه السارد كتقانة واجهها بالتجريب.
وعلى الرغم من أن الدرس النقدي تقدم كثيرا في التنظير للمتوالية؛ إلا إننا نجد بعضهم يجازف مجازفة غير مسؤولة في عد المتوالية اجناسية، مضيفا لها توصيف ( السردية ) مبشِّرا بها موضوعا وهميا لأطروحة أو رسالة جامعية ستؤسس بدورها لموضوعات أخرى وهمية يسجلها طلاب يتوهمون أنهم واقفون على أرض النقد الصلبة، وقد تنتقل هذه العدوى إلى النقد عامة بمساع مدركة أو غير مدركة.ولسنا نلقي اللوم على طالب ما عاد يأتي إلى ميدان الدراسات العليا، إلا وهو خالي الوفاض كأنه البياض، لكن هذا بالضبط ما يريده الناقد الواهم، كي يخط على هذا البياض سواد وهمه وضلاله.
وإذا افترضنا أن الدرس النقدي لم يصل بعد إلى مرحلة الانفتاح وأن القول بنظرية النوع الأدبي ما زال صالحا، فسنجد أيضا أن المتوالية هي تجريب كتابي وتقنية نصية يقتصر اشتغالها داخل البناء السردي، وليست إطارا بنائيا لمجموعة أبنية سردية، فضلا عن أن ما يميز القصة القصيرة عن الرواية هو صيغتها الاختزالية التي بها تصبح القصة القصيرة غير قابلة لأن تكون متوالية. ونتفق مع لوشر أن السبب هو عدم قواعد وصفية في التنوع الواسع داخل القص القصير أولا ولان مسلك القصة القصيرة يصعب تصنيفه ثانيا ولان القصة القصيرة مصطلح مطاط إلى حد بعيد ثالثا.
ومن هنا يغدو من غير الممكن عد المتوالية ( السردية ) ومتوالية( القصة القصيرة) اجناسية لتفكك الشكل وضعف الوحدة، لكن عدها ستراتيجية تكنيكية ممكن لأن مسألة التوالي رهن بالقارئ وقدراته وليست مرهونة بمؤلف يضعها تجنيسا لمجموعة قصص لان هذه القصص هي في الأصل رواية. وعن هذا يقول روبرت لوشر:" كلما أصبحت المجموعة أشد وحدة من الناحية العضوية والتكنيكية فإنها تقارب المنطقة الوسطى الفسيحة من متوالية القصة القصيرة . وقدر ما تفقد الأجزاء اكتمالها الفردي وتخضع للمخطط السردي الأوسع فان العمل يتخذ طابعا روائيا" ص99
وهذا ما فعله الروائي جهاد مجيد في روايته( حكايات دومة الجندل) التي أشكل أمر تصنيفها الاجناسي على بعض الدارسين بسبب هذا التداخل ما بين مصطلحي الحكاية والرواية، فكان أن عدها د. ثائر العذاري (متوالية سردية) وأدخلها د.علي إبراهيم في باب( قصة الرواية )
وإذا عددنا توزيع الكاتب للمادة القصصية إلى أقسام وفصول هو التوالي؛ فهل ستكون رباعية( الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم والصادرة عام 1961، وهي أقدم صدورا من النصوص التي مللنا تكرارها عند الدارسين لنزرتها ولنزرة معرفتهم بسواها أو رباعية الإسكندرية لورنس داريل متواليات روائية أيضا ؟.
وبعد أكثر من عقد على ما طرحه روبرت لوشر عن اجناسية متوالية القصة القصيرة، يأتي والاس مارتن ليحسم مسألة المتوالية السردية واصفا إياها بأنها مجموعة أحداث بعينها يتم التلاعب في تسلسلها على مستوى الحبك. والفرق بين المتواليتين إن مفهوم المتوالية السردية كستراتيجية بنائية أبقى من المفهوم الأول كنوع أدبي.
وعلى الرغم من تلاشي الحدود بين الأنواع الأدبية باتجاه التداخل الاجناسي؛ إلا أن الالتفاف على اجناسية متوالية القصة القصيرة، باتجاه جعلها اجناسية متوالية سردية ما زال قائما.
وطبقا للانفتاح النصي والتداخل الاجناسي لم تعد الرواية نوعا أدبيا مستقلا، فهذا لوسيان جولدمان يوافق لوكاش في تعريف الرواية بأنها قصة بحث متفسخ بحث ممسوس بحث عن قيم أصيلة في عالم اجتماعي هو نفسه متفسخ، ويوافقهما جيرار جينيت الرأي واجدا التفسخ نتيجة لمرض وجودي.
إما جوناثان كلر فيضرب مثلا في مقالته( نحو نظرية لأدب اللانوع) للمتوالية بوصفها تقانة موجهة للقارئ، فيقول:" لو أننا برمجنا كومبيوترا بحيث يطبع متوالية عشوائية من الجمل الانجليزية فان دراسة النصوص الناتجة عن هذا ستكون لها أهمية كبيرة ذلك أن القراءة في ظل هذه الظروف هي عملية صناعة للمعنى"، وهذه العشوائية وذلك التفسخ يؤديان إلى النتيجة نفسها وهي أن المتوالية ليست جنسا أدبيا.
وليس تذبذب الفهم وتشوش الرؤية في إدراك علاقة التقانة بالشكل ودور التقانة في تفتيته، إلا تركة من تركات الواهمية النقدية التي تجعل المرء واقفا عند حافة البحر وهو يعتقد انه خاض غماره وسبر عبابه مقاوما لججه متحملا أهواله ومصارعا أمواجه عارفا جزره مكتشفا شعبه ومرجانه، بينما هو في الحقيقة لا يزال عند الحافة ولم يتعدها.
وكان الدكتور عبد الرحيم الكردي في كتابه( قراءة النص تأصيل نظري وقراءات تطبيقية) وبناء على فهمه الدقيق لمعطيات نظرية التداخل الاجناسي، قد رفض أن تكون (مرج الكحل) 2005 لمنير عتيبة، متوالية قصصية وإنما هي مزيج مهجن يجمع بين ملامح من الرواية والقصص القصيرة والأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية، ومما قاله أيضا: "مرج الكحل ليست مجرد متوالية من القصص القصيرة التي يمكن قراءة كل واحدة منها بصورة مستقلة ..وهي أيضا ليست رواية لأنها لا تحتوي حبكة ولا حكاية موحدة هي عبارة عن شرائح للوحة كاملة من الرسوم المتحركة لكنها مفككة تشبه اللوحات المصممة عن طريق برنامج الرسام في الحاسب الآلي".
وعبد الرحيم الكردي هو الذي حدد ان استخدام تيار الوعي في الرواية المصرية كان قد بدأ في ستينيات القرن الماضي وفي هذا التاريخ تحديدا أخذت الأشكال الجديدة المتمردة على الشكل التقليدي تظهر في الرواية العربية في مصر.