هل وصلت أميركا إلى منعطفٍ في مكافحة العنصريَّة؟

بانوراما 2020/06/13
...

واشنطن/ أف  ب
 
تشهد الولايات المتحدة تظاهرات حاشدة في العديد من المدن من ميامي إلى سياتل مرورا بنيويورك ولوس أنجليس، منذ أن قضى الأميركي الأسود جورج فلويد البالغ 46 عاما اختناقا في 25 أيار في مينيابوليس تحت ركبة شرطي أبيض ركع حوالى تسع دقائق على عنقه.
تظاهرات حاشدة
وليست هذه أول مرة تخرج تظاهرات غاضبة احتجاجا على مقتل أسود بيد الشرطة، لكنها أول تحركات تتخذ هذا الحجم منذ حركة الكفاح من أجل الحقوق المدنية 
في الستينات.
وهي أول مرة منذ سنوات يشارك البيض بأعداد كبيرة في المسيرات. وقال إيه سي تشانر وهو عازف موسيقى أسود التقته وكالة فرانس برس قبل بضعة أيام في موقع المأساة “أمر مشجع جدا أن نرى أشخاصا من شتى الأصول” وتابع مبديا أمله في التغيير “أعتقد أن الجميع سئم 
الأمر”.
* ما هي أول خطوات تحققت؟
- أول ما حققته هذه التعبئة هو تغيير الذهنيات.
وبات نحو نصف الأميركيين (49 %) يعتبرون اليوم أن الشرطة ميالة أكثر إلى استخدام القوة المسرفة بحق مشتبه به أسود، مقابل 25 % عام 2016، وفق استطلاع للرأي أجرته جامعة مونماوث.
وذكرت إحدى مؤسِّسات الحركة باتريس كالورز “قبل سبع سنوات فقط، كان التفوه بعبارة (بلاك لايفز ماتر) (حياة السود تهمّ) أمرا في غاية التطرف”. أما الآن فهذا الشعار مدون بحروف عريضة قبالة البيت الأبيض، بدعم من بلدية واشنطن.
وأعلنت عدة مدن أولى الخطوات لإصلاح أجهزة الشرطة، فحظرت هيوستن تقنية “الخنق” التي تقضي بإمساك موقوف من عنقه، وتعتزم واشنطن إقصاء النقابات من الآليات التأديبية بحق عناصر الشرطة، كما تعتزم نيويورك إتاحة الاطلاع على ماضي الشرطيين.
وعلى المستوى الوطني، قدم الديموقراطيون في مجلس النواب مشروع قانون يستهدف الحصانة الواسعة النطاق التي يحظى بها الشرطيون.
هل تكون كافية؟
 يبقى من الصعب إجراء إصلاح في الولايات المتحدة في وجود نحو 18 ألف كيان مستقل من قوات حفظ النظام، بين شرطة بلدية ودوريات تابعة للولايات ومكاتب مأموري المناطق وغيرها، لكل منها قوانينه الخاصة للانتساب والتدريب والممارسات المأذون بها... وقال قائد شرطة هيوستن آرت اسيفيدو خلال جلسة استماع في الكونغرس “من الضروري أن تكون لنا قواعد فدرالية”.
إلا أن فرص التوصل إلى نص يحظى بالتوافق تبقى ضئيلة في ظل الانقسامات العميقة بين الديموقراطيين والجمهوريين في الكونغرس. وإن كان حزب الرئيس دونالد ترامب ندد بجريمة “مروعة”، إلا أنه يعتبرها من فعل “شخص فاسد” رافضا إصلاحا شاملا لأجهزة الشرطة.
 
ما الذي يتطلّبه الأمر؟
وقالت الناشطة جليلية عبد البراون التي التقتها فرانس برس في مينيابوليس مؤخرا “يجب أن نبدأ بإعداد زعيمنا المقبل، حتى يتمكن من خلافة جيسي جاكسون”، المتحدث باسم قضية السود الذي بات متقدما في السن.
إلا أن حركة “بلاك لايفز ماتر” ترى عكس ذلك. وقالت باتريس كالورز “جيلنا لا يريد أن يكون هناك متحدث واحد باسمه، خصوصا وأن ذلك ليس آمنا” مضيفة “إننا نعمل بشكل جماعي على الرسالة ، ولو أن الأمر يستغرق أحيانا وقتا أطول بقليل”.
كما أن الأمر قد يثير الالتباس، كما حصل مع ظهور شعار “قطع التمويل عن الشرطة”، إذ اعتُبر مبالغا به، ولو أن هدف مطلقيه كان تسليط الضوء على ضرورة تخصيص المزيد من الأموال لمكافحة التباين الاجتماعي والاقتصادي الذي يطال الأميركيين السود في مجالات مثل التربية والصحة وغيرهما.
وسارع ترامب الذي يخوض حملة للفوز بولاية ثانية في تشرين الثاني، إلى تناول الموضوع منددا بـ”اليسار الراديكالي”، بينما علق النائب الجمهوري جيم جوردان “الأمر مجرّد جنون”.
 
ماذا عن الانتخابات؟
وكتب الرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما على منصة “ميديوم” للمدونات الإلكترونية أن “هدف التظاهرات هو توعية الرأي العام، تسليط الضوء على الظلم، وإحراج أصحاب النفوذ (...) لكن في نهاية المطاف، يجب أن تترجم التطلعات إلى قوانين وممارسات مؤسساتية محددة، وإلى ديموقراطية، وهذا لا يحصل إلا عندما ننتخب مسؤولين في الحكومة يتجاوبون مع طلباتنا”.
وأوضح أن “المسؤولين المنتخبين الذين يلعبون أكبر دور على صعيد إصلاح أجهزة الشرطة ونظام القضاء الجنائي يعملون على المستوى المحلي ومستوى الولايات” خاتما “دعونا نباشر العمل”.
 
البدلة العسكرية
وأعرب رئيس أركان القوات الاميركية الجنرال مارك ميلي علنا الخميس عن أسفه للظهور بالبدلة العسكرية إلى جانب الرئيس دونالد ترامب بعدما فرقت الشرطة بعنف تظاهرة سلمية قرب البيت الأبيض في الأول من حزيران.
وكان الهدف من تفريق المتظاهرين السماح لترامب بالتوجه إلى كنيسة سانت جون القريبة لالتقاط صور وهو يحمل الكتاب المقدس محاطا بعدد من المسؤولين. 
وقال الجنرال ميلي في كلمة عبر الإنترنت بمناسبة تسليم الشهادات لخريجي معهد “نوتر دام” العسكري “كثيرون منكم رأوا نتائج هذه الصورة لي الأسبوع الماضي التي أثارت جدلا حول دور العسكريين في المجتمع”.
وأضاف “لم يكن يجدر بي أن أكون هناك، وجودي في تلك اللحظة وفي تلك البيئة ولدت انطباعا بضلوع عسكري في السياسة الداخلية.. إنه خطأ استخلصت 
منه العبر”.
وكانت صور الجنرال ميلي باللباس العسكري يسير وراء ترامب أثارت انتقادات من مسؤولين عسكريين سابقين خصوصا وزير الدفاع جيم ماتيس. وحضر أيضا في حينها وزيرا الدفاع والعدل ومسؤولون آخرون. ودافع البيت الأبيض بشدة عن خطوة ترامب في حينها مشددا على أنه كان يرغب “في تمرير رسالة قوية” وقورن برئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية.
 
“عملاق لطيف”
وكان فلويد الذي يبلغ طوله 1.93 متر معروفا لاصدقائه وعائلته بأنه “عملاق لطيف”، وهو مغني راب ورياضي عانى من مشكلات مع قوات إنفاذ القانون والإدمان ولكنه أراد الأفضل لأطفاله.
انتقلت والدته، التي كان يصرخ من أجلها عندما كان يموت في 25 أيار في مينيابوليس، إلى هيوستن بعد فترة وجيزة من ولادته في العام 1973 في ولاية نورث كارولينا.
نشأ فلويد في الحي الثالث، وهو حي فقير وغالبية سكانه من الأميركيين الافارقة في وسط هيوستن.
وأفاد ابن عمه شاريده تيت خلال تجمع تكريمي الأسبوع الماضي في مينيابوليس “لم يكن لدينا الكثير، لكن كان لدينا دائما بعضنا البعض”.
وقال معلمه في الصف الثاني واين سيكستون ان جورج حين كان يبلغ سبعة أعوام  كان يحلم بأن يصبح قاضيا في المحكمة العليا ذات يوم.
وفي مدرسة جيك ييتس الثانوية، لعب دور الأخ الأكبر لكثير من الأولاد المحليين.
وقال شقيقه الأصغر فيلونيس في التجمع التكريمي: “كان يعلمنا كيف نكون رجالا لأنه كان في العالم قبلنا بالفعل”.
تميز فلويد في مجال كرة القدم وتفوق في كرة السلة حين كان في الكلية.
وأوضح شقيقه فيلونيس “كان شرسا في الملعب”، وتابع “ولكن في الحياة كان (عملاقا لطيفا) مع جميع الناس”.
 
بارع في الكلمات
 ترك فلويد الكلية وعاد إلى هيوستن لمساعدة عائلته في تدبر أمورها. في التسعينات، انضم الى دائرة الهيب هوب في هيوستن واشتهر باسم “ بيغ فلويد”، حيث حقق بعض النجاح.
لكنه لم يتمكن من تفادي الطابع العنيف لهذا المجال في هيوستن، فاعتقل عدة مرات بتهمة السرقة وتجارة المخدرات.
وقالت وسائل إعلام محلية إنه سُجن اربع سنوات في مطلع القرن الحادي والعشرين بتهمة السطو المسلح.
وبعد خروجه من السجن، التفت إلى الشأن الديني وتعاون مع كاهن رعية في الحي الثالث، واستخدم سمعته وحبه لنجم كرة السلة ليبرون جيمس لجذب الشبان إلى الكنيسة، حيث علمهم ايضا ممارسة كرة السلة.
قال فيلونيس “كان قويا، كان بارعا في استخدام الكلمات”.
انتقل فلويد إلى مينيابوليس في العام 2014 من أجل “تغيير الأجواء” والبحث عن عمل أكثر استقرارا للمساعدة في دعم أم ابنته الجديدة جيانا.
كان يعمل كسائق شاحنة لجيش الإنقاذ (منظمة خيرية ترعى الفقراء) ثم كحارس في حانة، وهي الوظيفة التي فقدها عندما أغلقت مطاعم المدينة بسبب وباء (كوفيد – 19).
كتب فلويد على موقع إنستغرام في العام 2017 وسط اضطرابات عرقية “لدي عيوب ومثالب، وأنا لست أفضل من أي شخص آخر”.
وتابع  “لكن عمليات إطلاق النار جارية.. لا يهمني ما هو دينك أو من أين أنت. أنا أحبك، والله يحبك يا رجل. ضعوا البنادق
جانبا”.
 
تحقيق العدالة
لكن في 25 أيار، توفي فلويد مختنقا بعد أن جثا شرطي أبيض على رقبته لمدة ثماني دقائق، وانتشر مشهد وفاته الذي تم تصويره من قبل المارة على الفور حول العالم.
وكان فلويد اشترى للتو سجائر باستخدام ورقة 20 دولارًا مزيفة، وتناول الفنتانيل، وهي مادة مخدرة قوية.
كانت كلماته الأخيرة “لا أستطيع أن أتنفس”، وانتشرت صورته في جميع ارجاء العالم، وأشعلت وفاته مطالب الأميركيين الأفارقة بوضع حد للعنصرية وعنف الشرطة بحقهم.
وقالت روكسي واشنطن، والدة ابنته جيانا، التي تبلغ من العمر الآن ستة أعوام “أريد العدالة له لأنه كان شخصا جيدا. بغض النظر عما يعتقده أي شخص، 
كان جيدا”. 
وأعرب سكان الحي الثالث في هيوستن عن احترامهم لفقيدهم برسم جداريات تكريما له، تصور احداها على جدار من الحجر الأحمر في مبنى الإسكان الاجتماعي حيث نشأ، “بيغ فلويد” الرجل الضخم بجناحي ملاك مع هالة حول رأسه.