منتهى الكلام حول الشعر

بانوراما 2020/07/02
...

ترجمة:  كامل  عويد

 
 
 
يكمن الإنسان في لسانه، والمبدع في لغته تحديداً، وإذا ما أخذنا التمييز الذي وضعه سوسير بين اللسان واللغة، احدهما أساسي وعام، والآخر خاص ومحدد، فمع ذلك لا أريد أن أتناول هذه القضية الجوهرية كلساني، ولكن كشاعر، كصائغ كلام.
 إن اللغة ما هي إلاّ في خدمة الخيال، إنها أداة لرصد الواقع، سواء أكان مرئيا أو غير مرئي، جلياً أو خفياً، بينّاً أو غامضاً، وبالتالي فهي أداة لاستكشاف المستقبل الذي يعد الوجه الآخر للحاضر، وبما أن الأمور تمضي بسرعة، وأحياناً، تمضي كالبرق الخاطف في الزمان والمكان، فإن هذه الأمور تبدو وكأنها متضافرة ومتزامنة. فـ» كل ماحلم  به  الأنسان  أو تخيله موجود في هذا العالم أو في سواه « على حد تعبير جيرار دي نيرفال. وإذا كان هذا الافتراض صحيحا، وقناعتي هي كذلك، فإننا نرى لابديل للخيال بالنسبة للإبداع المستقبلي، ويشهد بذلك سيرانو دي بيرجراك، وجول فيرن، وتنتان، شأنهم شأن ما قبل السقراطيين الأكثر دهاءً وفطنة الذين علّموا الأنسان الوجود الكلي للذرة وقدرتها. وإذا ما أخذنا الميدان الفرنسي، فإن آثار الجروح من الممكن ملاحظتها في المادة الحية من اللاوعي الأنساني، قبل فرويد بكثير، من خلال الاستكشافات الشعرية لدى راسين، وهيغو، وبودلير، وغيرهم! من الخطأ أن يتألم العلماء من هذه الأسبقية في الشعر في حقل إعادة تأسيس المستقبل، فهم يعرفون من خلال التجربة كل ما يحتاجونه للحدس بدءً من منطلق استكشافاتهم المثيرة للدهشة. وعليه فان الحدس يثبت مكانته كونه هذا التكثيف المفاجىء في مختلف مستويات الواقع لولادة المحتمل أو الممكن. وهما في الغالب دلالات بوادر إنبجاس واقع جديد أو- على الأقل – واقع ، كان مخفيا حتى الآن، ينهض فجأة. « اللغز في وضح النهار» هو عنوان، عنوان جميل، لدراسة منسية اليوم، كتبها موريس باريس Maurice Barrès. لعل هذا العنوان يمكن أن يتضمن جهودا مستقلة- إلاّ أنها مقاربة بشكل غريب – صادرة عن العلم والشعر لكشف ما يمكن كشفه في دواخلنا ومن حولنا، فالإنسان والكون خاضعان لرغبة الاستكشاف ذاتها، والاستكشاف قد لا يكون في الواقع سوى مستوى من وعي كثافة اللغز، من زاوية محكومة بعدم الشفافية المركزية بشكل أفضل بعض الشىء. وهكذا أظن بأنني أرى، وأقول ذلك بعجالة إن التواطؤ، غير المقصود من دون شك، بين الشاعر ورجل العلم – في منطلق مسار كل منهما حتى نقطة الوصول اليه. كلاهما ينطلق من تساؤل يستدعي تساؤلات كثيرة أخرى تمثل مراحل متباينة في التقدم نحو الكشف المطلوب: كيف؟ و لماذا؟ سؤالان تتضافر مفاعيلهما في الرأسين المفكرين، المستنيرين، كما قلت، سراج مفاجىء وومضة  حدس، لدى الشاعر، التي هي أقل تحررا من التأصيل الوجاني للعلم، على امتداد، إمتداد غسق القلب الأطول. لايمتلك أحد من هذين « الباحثين « حتى الآن على الأقل جوابا على سؤال « لماذا ؟» فالشاعر ماهو إلاّ استفهام نابض بالحياة، مستمر: « الزهرة من دون سبب»، هذا ما قاله انجيليوس سيليسيوس. Angelius Silesius الأجابة عن كيفية الأشياء-  كيف يتولد هذا؟ وكيف يحصل ذلك؟ وكيف يمكن أن يكون هذا فاعلاَ أو مثبطا...الخ؟ يحدث ان رجل العلم، وعلى نحو يثير الأعجاب، هو من يزودنا به. ومن خلال كل ما يبدعه رجل العلم اليوم، بمساعدة كل نطاق التقنيات والتكنولوجيا التي ابتكرها والمتاحة له من أجل اكتشافاته الجديدة، ويبدو نتيجة لذلك، انه هو بعين هبات الكاتب الوحيد لهذه المعجزات وهذه الأحلام التي كانت بالأمس مستودع  الشعر. الحلم، والشعر، والخيال المبدع. وعلى ما يبدو أن الميدان من الآن فصاعدا الذي يعد حكرا برجل العلم يعد ميدانا رائعا. انه هو، رجل العلم، الذي يمتلك اليوم مفاتيح المستقبل والمستقبل يدعونا إلى الارتماء في حضنه، وما أن نفكر في المستقبل، نضحى ديباجة حلم. هل نضع شعر الأمس على الرف، هل نضرب صفحا عن الأغراض القديمة،  وهل نضع أوهام الكلام الرائعة على الرف التي كانت كانت تأخذ بتلابيب القلب والروح، والتي كشفت عن هزالها، في غمرة الأضواء الباهرة للمنجزات العلمية، وماهي سوى « توافه اللغو المندثرة» على حد قول مالارميه، في سياق غير هذا. هل مات الشعر؟ أهو فناء مبرمج للشاعر الذي لم يعد ينتمي إلاّ  لمملكة مهزوزة بثقافتها المشعوذة؟ كل ما حولنا يوحي بذلك، وكل عمل في الاتجاه ذاته يثبت هذه الظاهرة، هذا الفشل الوجودي الذريع. وبطريقة غامضة قال رامبو « أنتهت وصلة الغناء».النهاية، بالنسبة لجيلنا، ولكلمة الشعر التي، ظلت منذ بدء الخليقة كانت تغذي حياة، وفكر، وحلم، وحركة المجتمعات الأنسانية في تنوعها عبر تعدد السنها، أهي النهاية حقا؟ واني لأرى، وعن هذه الـ ( الأرى) سأوضح فيما بعد.
مما يساعد العلم على بسط سلطته الكلية الآن، أنه يغذي المجتمعات، فضلا عن الخدمات الأخرى، فضاءللهو، هذا الأنعتاق، هذا اللاالتزام التي هي بحاجة اليه للإفلات من الضغوط بكل أنواعها التي يسلطها عليها العالم الذي تعيش في كنفه- أكثر بؤسا.وتتحمل هذه المجموعات البشرية التي ماانفكت تزداد تعقيدا، كل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعرفونها، وهي ضغوطمخيفة ساحقة ماحقة، ضغوط مرتبطة باشكال وصيغ الإلغاء والإستلاب حيث يعد الخوف من البطالة أحد امثلتها ، ومن آثارها السلبية تلوث المدن. ماعسى الأنسان أن يفعل، وما عسى امرأة أن تفعل في خضوعهما لهذا التعامل اليومي؟ وهم يدخلون الى بيوتهم ، فإن أول خركة يقومون بها هي التوجه الى زر التلفاز، صندوق العجائب والأحلام، ودفعة واحدة تنطلق نشرة الأخبار التي لامناص منها، هذه الطبقات « اللاانسانية» على حد تعبير بول فاليري. فالتلفزيون مثله مثل السينما بالأمس، في متناول اليد، ومتاح فورا، يفتح لكل راغب، وهم بآلاف الملايين ، والهرب لاغنى عنه لكل انسان، تحت طائلة المشاعر التعويضية، والتجاوزات، والبحث عن كل ماهو غرائبي. 
إن الرواية التي تنسج مصائرنا الخفية تستحيل الى صور، وهذه الصورتعزز الأدب الروائي. حلقة مفرغة: ان عصرنا المترع بالأختراعات الدقيقة الناجمة عن عبقرية العلم متعددة الأشكال، وأدبحكائي، وهمي، زائف، وباختصار أدب رومانسي. التلفزيون والسينما والقصة والرواية: كلها كتابات لـ « التسلية « وفقا لمفهوم باسكال الشهير. إن الإنسان المتخِيّل لا يفكر إلاّ بالانفلات في صور جاهزة وردت اليه من كل حدب وصوب: « إستسلمْ : غيرك يتخيل بدلا عنك» هو ذا الشعار لهذا الانتاج المتضخم الذي لا يمكن إلاّ ان يذكر بالوفرة واللغط في الأسواق ، لايمكن إلاّ ان يهدد بذوبان الذات الباطنة، الذات المبدعة، إذا لم نتصد إلى هذا الفيضان التلفازي، واغلبه سفاسف عديمة الجدوى منها، وفي كل الأحوال، لا يجد الشعر فيه غايته، لأنه يتطلب من كل فرد العودة الى الذات، والتكثيف، والتكثف. وبما ان الشعر يطرح الأسئلة الجوهرية التي تستكنه معنى وجودنا على الأرض، فلا يمكنه ان يبتسر الكينونة، ولا انخراط الإنسان فيها من خلال تأمل اللغة.حتى إذا اتفق للشعر أن يستخدم اللغة كلعبة، فهو يعرف أن أفقه يحاول أن يرد على هذه الاستجوابات الملحاحة، اللاهثة أحيانا، التي تظهر له من أساسيات التجربة المعيشة: لِمَ الميلاد والحياة؟ لِمَ الحب والآلام؟ لِمَ الشيخوخة والموت؟ والإجابة، وهذا ما قلته بوجه الأحتمال عن هذه التساؤلات، لا يمكن ان توجد من دون انصهار الإنسان في حدوده الوجودية الدنيا.