{مدينة الشمس} تضيء عتمة اللبنانيين بأمسية استثنائيَّة

بانوراما 2020/07/09
...

 

بيروت/ ماريان زوين
لأن هوية لبنان هوية ثقافة، فن وحرية.. ولأن الفن صوت صمود حقيقي بوجه التحديات كافة، كان “صوت صمود” بعلبك ساطعا في لبنان والعالم ليلة الأحد  5/ 7 / 2020.
وسط وضعٍ استثنائي صعب يعيشه لبنان، وفي صيف غابت عنه المهرجانات الفنيّة، جرّاء جائحة كورونا والمشكلات الاقتصادية، رفضت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية أن يسطر تاريخ صيف 2020، غياب الموسيقى عن أعمدة بعلبك التاريخيّة.لأن هوية لبنان هوية ثقافة، فن وحرية.. ولأن الفن صوت صمود حقيقي بوجه التحديات كافة، كان “صوت صمود” بعلبك ساطعا في لبنان والعالم ليلة الأحد  5/ 7 / 2020.
وسط وضعٍ استثنائي صعب يعيشه لبنان، وفي صيف غابت عنه المهرجانات الفنيّة، جرّاء جائحة كورونا والمشكلات الاقتصادية، رفضت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية أن يسطر تاريخ صيف 2020، غياب الموسيقى عن أعمدة بعلبك التاريخيّة.
فكانت هذه الرسالة الاستثنائيّة: حفلةٌ موسيقيّة ضخمة تفتقد لتصفيق الجمهور لكن تروي عطشها بتصفيق الملايين من بيوتهم؛ بحيث عُرض الحفل مجّانا على المحطات التلفزيونية اللبنانية، منصة “شاهد” العربية، وسائل إعلام أجنبية، ومنصات التواصل الاجتماعي الخاصة بالمهرجان.
كما شاهد اللبنانيون أيضا العرض عبر شاشات ضخمة في بعض المناطق، كان أبرزها، شاشةٌ  وُضعت على واجهة المتحف الوطني في 
بيروت.
 
أمسية موسيقيّة راقية
بين رهبة المكان، وأصالة الموسيقى عزفا وأداء، برعت الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة المايستروهاروت فازليان، داخل جدران معبد باخوس في القلعة الرومانية الواقعة في شرق لبنان، بمشاركة جوقة جامعة سيدة اللويزة، جوقة المعهد الأنطوني، الصوت العتيق، وبحضور خاصّ وبارز للفنان رفيق علي أحمد، بتنفيذ أمسية موسيقيّة راقية، تجسّد رمزيّة كبيرة تحت عنوان “صوت الصمود”، بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير ومرور 250 عاما على ولادة بيتهوفن. 
مشهديّة لـ75 عازفا و100 مغنٍ، أبكت اللبنانيين حرفياً. فالأضواء التي أرخت بظلالها على الأعمدة عبر إبداعات بصريّة لجان لوي مانغي، والتي ظهّرتها لمسات المخرج باسم كريستو، أعطت اللبنانيين أملا بأنْ تعود الأضواء إلى يومياتهم البائسة، كما عادت إلى أروقة المعابد 
والهياكل.
برعاية رئيس الجمهورية ميشال عون، بعث المنظمون رسالتهم الثقافية، رسالة الإيمان بلبنان الذي لن ينال منه من يحاول قهر شعبه. ولترسيخ الذاكرة الفنيّة الوطنيّة، عُرض بعد النشيد الوطني شريط تواريخ وعناوين وأعمالٌ كانت قد شهدتها أدراج بعلبك ومعابدها منذ العام 1956. وفي إيقاعٍ مضبوط ومحترف مع أداء محكم الأصوات، والنابض بالأحاسيس، كان واضحا اختيار المايستروفازليان الذكيّ، لتراتبيّة المقطوعات الموسيقيّة. فكانت الانطلاقة مع أكثر الأعمال الكلاسيكية الموسيقية المعزوفة في العالم “كارمينا بورانا”، وهي مجموعة 24 قصيدة مغنّاة من القرن الثالث عشر، أطلقها كارل أورف سنة 1935 على مسرح أوبرا فرانكفورت، وهي تعبّر عن الحبّ، المعاناة والحظّ السيّئ، تلتها موسيقى الأخوين رحباني، فاتحة مسرحيتهما الشهيرة “أيام فخر الدين”، بتوزيع جديد من غدي وأسامة الرحباني، فكانت معاني الشهادة في سبيل بقاء الوطن، بقاء لبنان الحرّ! ومع تماه لصور تذكارية لجبران خليل جبران، عُزفت مقطوعة العازف اللبناني العالمي غبريال يارد الذي وضعها خصيصا لفيلم “النبي”. معزوفة إيغور سترافنسكي “طقوسية تكريس الربيع”، فمقطوعة “كشمير: لليد زيبلين، وبعدها مقطوعة  جيوزيبي فيردي، “حلّقي أيتها الفكرة”، إبداعاتٌ حضّرت المكان للإبداع الأخير الذي ختم فازليان به أمسيته، فكان مع بيتهوفين، ورائعته “نشيد الفرح”، وهي خاتمة سمفونياه التاسعة التي أطلقها في فيينا سنة 1924 عن نصّ “نشيد الحريّة” للشاعر الألماني فردريك شيلر كان قد كتبه سنة 1785. 
وكأنّ فازليان قصد أنْ يقول عبر سلاحه الوحيد، عبر الموسيقى، أنّ بعد المأساة والشعور بالحظّ السيئ، والنضال في سبيل بقاء الوطن، ومع الصّلاة؛ ستكون الحريّة، الوحدة، والأخوّة الإنسانيّة؛ فالكلمات الثلاث الأخيرة هذه، هي ما تجسّده مقطوعة “نشيد الفرح” التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي نشيداً رسمياً له نسبة لمعانيها. 
 
روح التحدّي
رئيس جمهورية لبنان ميشال عون، الذي نوّه بالأمسية الموسيقيّة، وصفها بـ” أبلغ تعبير عن روح التحدّي والمواجهة التي تحرّك إرادة اللبنانيين، في وجه وباء كورونا من جهة، والأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة من جهة أخرى”. عون الذي دعا اللبنانيين إلى التمسك بالأمل لتخطي الواقع الراهن والعبور إلى ضفة النهوض والاستقرار، شكر المنظمين لهذا الحدث الفني الاستثنائي وعلى رأسهم لجنة مهرجانات بعلبك
الدوليَّة.
“إنّها ثورة ثقافية”، بهذه العبارات تحدّث وزير الثقافة والزراعة اللبناني عباس مرتضى، عمّا رآه وشعر به خلال حضوره الحفل؛ وأضاف: “لم يتقاضَ أحدٌ من المنظمين أو الموسيقيين بدل أتعابه في هذا الحفل الضخم.. كلّ ما ترونه يُقدَّم من دون انتظار أي مقابل، هو فقط رسالة ثقافة وتذكير بأهميّة الحفاظ على لبنان الكبير، بالمحبّة، الفنّ
والحوار!”.
لم يخفِ بشير خضر، محافظ بعلبك شعوره الممزوج ما بين المرارة والحزن مع الأمل والفرح فقال: “بصراحة، نعم أفتقد روّاد القلعة، أفتقد جمهور مهرجانات بعلبك، ولكن هذا هو الواقع حالياً، وفي ظلّه، نبعث رسالة الأمل اليوم، لأنّ إرادتنا أقوى، ومسؤوليتنا أكبر لتخطّي هذا الواقع المرير على كل الأصعدة”.
 
صورة لبنان الحضاريَّة
من جانبها أعربت رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك الدولية، نايلة دو فريج عن خوفها من تغيير وجه لبنان الثقافي، مشيرة إلى أهميّة وجود هذا الحدث في مثل تلك الظروف، لتذكير الجميع بصورة لبنان الحضارية، الفخورة بنقلها اليوم الى العالم، ساردة أنّها المرّة الأولى لها التي تنظّم خلالها، هكذا حفل استثنائي بعد ثلاثين عاماً من العمل في اللجنة، مؤكّدة أنّ كما صمدت بعلبك بوجه مختلف الحضارات التي مرّت عليها، سيصمد لبنان وينتصر”.
بكلماتٍ متشابهة، وصف المايسترو هاروت فازليان شعوره عندما افتقد تصفيق الحضور عند آخر كل مقطوعة، لكنّه فخور بأنّه قطف تصفيق آلاف لا بل ملايين القلوب في لبنان وكل العالم.. القلوب التي خفقت للبنان الإبداع والصمود.
مع هذا المشهد الحضاري، مدينة الشمس أضاءت عتمة اللبنانيين، وسمحت لهم خلال ساعة من والوقت ألا يهربوا من واقعهم كما اعتقد البعض، بل على العكس، أنْ يفكّروا بواقعهم ويفهموه، فيندفعوا الى النضال الحقيقي الذي يخلّصهم من أزماتهم.
بعلبك التي صدحت: “صامدون رغم كلّ شيء”، عرفت أفضل وسيلة لإيصال الرسالة، بعلبك عرفت أنّ بالثقافة والموسيقى، تكون مقاومة الصعوبات والوصول حتما إلى الحريّة 
والسلام.