عبدالامير المجر
في مسلسل بدوي، شاهدته قبل أكثر من عقدين، أتذكر مشهدا، ظهر فيه أحد رجال قبيلة ومن أشرافها، وسط مجموعة من أبناء قبيلته يجهزون أنفسهم للخروج بحثا عن رجل منهم خرج ولم يعد .. كان الرجل يسأل عن مدى استعداد المجموعة ويتفقد تجهيزاتها من سلاح وعتاد وطعام وماء وغيره، ثم قال بالنص وبلهجته البدوية.. ولزوم يكون معانا حكيم (طبيب).. وهكذا اطمئن الى كمال الاستعدادات قبل خروجهم للبحث عن الرجل الذي قد يكون مخطوفا او ضل طريقه او مريضا او غير ذلك، وفي كل الأحوال لا بد من الاستعداد لمواجهة هذه الاحتمالات بما تستحق.
هذا المشهد الذي يعكس ثقافة فطرية سبقت حتى مرحلة البداوة، يؤكد مسألة مهمة، تسمى بلغة اليوم (ستراتيجية المواجهة)، اي انك عندما تعقد العزم على مواجهة خصم، معلوم او مجهول، حقيقي او محتمل، عليك أن تكون مستعدا، سواء بالوسائل البدائية التي عبر عنها المسلسل البدوي، وفقا لمرحلته وبيئته، او بالطريقة الحديثة المتمثلة باستعدادات الدول، حين تفرض عليها مواجهة معينة، وأخطرها وأقساها المواجهة الشاملة، عندما يكون فيها الصراع مصيريا، بمعنى ان هكذا مواجهات، تستدعي أن يكون الاستعداد مبنيا على رؤية ستراتيجية متكاملة، اي ان تكون مستعدا سياسيا من خلال علاقاتك الدولية واقناع العالم بقضيتك، واقتصاديا بما يؤمن عدم حصول خلل يؤدي الى انهيار الشعب والجيش، وأمنيا حين تنضبط المعادلة الداخلية على قاعدة من التفاهم والتعاون بين مؤسسات الدولة والشعب.
بعد الإحباط الذي حصل نتيجة فشل الانظمة العربية والاسلامية في حل القضية الفلسطينية، حربا او سلما، ظهرت تنظيمات اسلامية مسلحة تبنت هذه القضية ورفعتها شعارا، وقد اصطدمت بالأنظمة في دولها، بهدف اسقاطها واقامة انظمة بديلة تعكس ثقافتها، لتحرر فلسطين! .. الشيء اللافت في هذه الظاهرة التي استشرت في العقود الأخيرة، أن لكل من هذه التنظيمات مرجعيته الخارجية، تدعمه ماديا ومعنويا وتضبط إيقاعه وتتحكم به، ما ادخل هذه التنظيمات في لعبة الصراعات الدولية والاقليمية، بدءا من تنظيم القاعدة في افغانستان الذي استثمر من قبل اميركا وحلفائها لمواجهة الوجود السوفيتي هناك، وصولا الى التنظيمات الاخرى التي تناسلت بشكل غريب، لاسيما بعد اندلاع ما عرف بالربيع العربي، إذ حوّلت الدول التي نشطت فيها الى ميادين لصراع دموي شرس، وبالنيابة، لان علاقة هذه التنظيمات بمرجعياتها الخارجية جعلت نشاطها أقرب الى البزنس بغطاء عقائدي، يستدرج المغفلين ويوظفهم في لعبته الكبيرة التي لايعرف أهدافها البعيدة هؤلاء (المجاهدون) ممن تسهّل اجهزة المخابرات، ايصالهم الى الميدان المطلوب، وهكذا صرنا نرى عشرات المسميات ذات العقيدة الاسلامية، او هكذا تدّعي، تحارب بعضها بعضا، كنتيجة لخلافات مرجعياتها الخارجية وصراعها على النفوذ في هذه الدولة او تلك، وفي الوقت نفسه يدعي قادتها أن هدفهم النهائي هو تحرير فلسطين!
السؤال الذي صار يطرحه عليهم أبسط الناس وأقلهم معرفة بالسياسة، هو؛ كيف تحررون فلسطين وأنتم بلا ستراتيجية مواجهة حقيقية، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا، ولاحتى ثقافيا، أي أنكم غير قادرين على اقناع أبناء بلدانكم في مشروعكم الظلامي الذي تريدون فرضه عليهم بالقوة!؟ فضلا عن أنكم بلا سلاح ردع ستراتيجي يوازي ما لدى اسرائيل.. وبأي عمق بشري ولوجستي تحاربون، وقد أنهكتم دولكم وشردتم شعوبكم وجوعتموها وحولتم الناس فيها الى لاجئين، بالتزامن مع تدميركم مرتكزات الاقتصاد واللّبنات الاساسية لبلدانكم؟.
لقد حققتم لاسرائيل ماكانت تحلم بتحقيقه من دون أن تخسر شيئا، فبينما أنتم تتقاتلون وتحلمون بأن يبقى الأقوى من بينكم ليتوجه الى اسرائيل، تحقق الأخيرة مكاسب على الأرض، بفضل ما سببتموه من شلل في قدرات دولكم وشعوبكم.. فأية خيبة أقسى من هذه؟!
نعم، نحن نعيش زمن البزنس العقائدي، والدكاكين العسكرية المفتوحة، بعد ان صارت هذه لعبة المخابرات الدولية المفضلة، إذ تزامنت خصخصة الحروب مع خصخصة الاقتصاد، وصار تفاقم هذه الظاهرة واتساعها، مقترنا بضعف الدول وانهيارها، فتحولت الى مخازن بشرية، تمثل العمق الذي لاينضب لتلك التنظيمات التي أضاعت شبابنا ودولنا ومستقبلنا معا!