محمد جبير
العالم المتحضّر أغلق الأبواب والنوافذ، واختفى خلف الجدران للوقاية من مخاطر "كورونا"، ولم يفكّر في خطوة خارج عتبة الدار، وإنّما انكفأ على نفسه واحتضن أسرته وأحبّاءه ليحمي نفسه ومدينته ووطنه من شرّ هذا الوباء، فيما راحت النخب الثقافية في تأمّل مشهد الموت الجماعي المخيف، والوقوف أمامه بصمت الخائف من ما هو مقبل،
إذ شهدت انهيار الأنظمة الصحية الرصينة في الدول المتقدمة في أوّل هجمّة وبائية شرسة، وراحت تفكّر في ترصين جبهة الصد الأولى بعد أن تلتها انهيارات أخرى اقتصادية ونفسية واجتماعية وحتى دولية على مستوى العلاقات العامة أو تبادل المعلومات في الحدّ من خطورة هذا الوباء.
وبقدر ما كان على الوسائل الاتّصالية المختلفة أن تحيي الأمل في النفوس الخائفة أو القلقة أو المرعوبة، فإنّها ذهبت إلى إشاعة الكثير من القلق، وزعزعت الكثير من القناعات لدى قطاعات واسعة من شعوب بلدان الأرض من خلال تضارب المعلومات وتناقضها وحشرها في خانة الصراعات الايديولوجية الكبرى، ممَّا أدّى إلى نفور الإنسان البسيط وقرفه من كلّ مايتداول سلباً وإيجاباً لأنه ذهنيا لايستطيع أن يتحمّل هذا الكمّ الهائل من التدفق المعلوماتي، أو أنّه لم يكن مهيئاً نفسياً وعقلياً لاستيعاب تلك المعلومات، ولمّا كانت تلك الشعوب تفكّر بحقوقها الشخصية التي تكفلها القوانين والدساتير بوجود نظام مؤسساتي يكفل للإنسان حرّيته وحقوقه، فإنّه أمام حقّه في الحياة راح يفكّر في التنازل عن حرّيته الشخصية للدولة مقابل الحفاظ على حياته الخاصّة، ولا يأتي هذا التنازل من خلال اتّفاق بين طرفين "ضامن ومضمون"، وإنّما هو حالة من استجابة وعي في العلاقة بين "المواطن والدولة" من خلال بناء سور الثقة بين الطرفين، ولم تأتِ هذه الثقة بين ليلة وضحاها، وإنّما عبر بناء مؤسساتي تراكمي عزّز كرامة المواطن وبنى قوة الدولة القادرة على حمايته.هذا المواطن الذي تنازل طوعا عن حقّه في الحرية إنّما هو المواطن الواعي يدرك أين تكون حريته مطلقة، وأين تكون حريته محددة وفق ضوابط وقوانين وتعليمات يجب الالتزام بها لحماية نفسه ووطنه، لذلك استطاعت تلك الدول أن تتجاوز مرحلة الذروة وتعبر بشعوبها من شاطئ الخوف إلى برّ الأمان، ولم تدّخر تلك الدول في تعويض مواطنيها من أصحاب الأعمال الحرّة أو الدخل المحدود من التعويض المادّي لتخفيف الخسائر التي سبّبها هذا الوباء لتلك الشرائح المجتمعية، عبرت تلك الدول وانتصرت لنفسها على الرغم من أنّها تخشى من موجة ثانية أشرس، لكنها حذّرت مواطنيها وطلبت منهم الالتزام بالتعليمات الوقائية.
في العالم الاتّصالي الجديد لم تعد تلك الدول ولا الشعوب بعيدة عن معرفة المواطن العراقي الذي انفتح على العالم، وهو يدرك اليوم من المعلومات والأخبار والتفاصيل الكثير الكثير، إلّا أننا في الوقت الذي كان العالم يشهد ارتفاعا في الاصابات والوفيات، كانت الإصابات لدينا قليلة جدا، لاتتجاوز العشرات، واستمرت لأشهر، إلّا أنها في الأسابيع الأخيرة أخذت بالارتفاع إلى الآلاف في الإصابات، والمئات بالوفيات، وهنا يحضر السؤال: لماذا؟
هذا سؤال كبير ولا يمكن الإجابة عنه بسهولة، فإنّه يتعلّق بعدة جوانب رسمية وشخصية تخصّ الحكومة والمواطن، وجمعيها مشتركة في تصاعد البيانات الرقمية وفي تبادل اللوم إن لم أقل تبادل الاتهامات، ومن بين أبرز تلك المظاهر التي أدّت إلى تصاعد أرقام الإصابات هو التفكير الخاطئ في "معنى الحرية"، إذ تحول الإجراء الوقائي "خليك في البيت" إلى حالة من سلب لحرية المواطن في الزمن الديمقراطي، ولا بدّ من التمرد على هذا الواقع للحفاظ على الحرية أو التمتّع بالحرية الشخصية، ولم تنفع تنظيرات وتحليلات وكشوفات كبار المفكرين في العالم عن "الخوف السائل والغازي"، لعلّ هذا المواطن يجلس في بيته ويحمي نفسه وأسرته من شرّ الوباء.لكنه يتمرّد ويستمتع في تجاوزه للتعليمات، ويسخر علنا أو سرّاً من المواطن الملتزم، وحين يصاب يتوسّل نسمة هواء والبحث عن سرير في مستشفى يزدحم بأمثاله من المتمرّدين عن الالتزام بالتعليمات الوقائية ممن أشاعوا أنّ هذا الوباء كذبة، وهو وباء سياسي، ويندفع للاعتداء على خطّ الصدّ الأول من الجيش الأبيض الذي يعمل وسط نظام صحي منهار لايوفّر له أبسط مستلزمات الحماية الفردية، إلا أنّه مازال يعمل بروح بطولية وجهادية لحماية أرواح أبناء الوطن، وهذا ماتدلّ عليه أرقام الشفاء المتصاعدة يوميا، وقلّة أرقام الراقدين في المستشفيات.