قاسم موزان
يبدو أن مقولة " تجشأ لقمان من غير شبع " ما زالت عالقة في الذهن على الرغم من مرور سنوات على قراءتها لأول مرة وغالبا ما استعيدها من ذاكرتي، كلما استدعت الضرورة استخدامها ضمنياً، امتعاضاً او سخرية لكونها تحمل اكثر من مدلول في المعنى او التوصيف، فالمعنى الايحائي يشير الى اصرار الشخص الجائع على التجشؤ امام غريمه على الرغم من خلو معدته الازلي خشية التشفّي والتشهير به، فيدفع ثمن حياته من اجل كبريائه المزعوم! .. او ان الشخص يكذب بامتلاء معدته بأكلة دسمة تدفعه للتجشؤ ليغيظ الاكثر منه جوعا، لذا فان بالإمكان اسقاط كلا المعنيين وغيرهما على واقعنا الحالي الملتبس بفوضوية الفوائض التقيئية في المجالس العامة او الخاصة بصوت عال يجثم على الانفاس قبل الصدور، بمساعدة يديه في التفسير والاقناع لمن تفوته شذرات المعنى المقصود !.. خاصة وان التقيؤات هذه المرة مستلة من خياله الخصب بثقافة هامشية سماعية و ادعاءات مزيفة للمعرفة . ان مثل هذه النماذج نراها في الواقع اليومي بعدة أوجه وبجسد واحد وفم واحد ولكن بالتأكيد ليس بلسان واحد.. فمرة تراه ضليعا في الميثولوجيا والاساطير القديمة في حياة الشعوب، وكذلك عالما في الفلك وحركة الكواكب والنجوم ، وتارة اخرى نجده خبيرا في العلوم السياسية وخفايا السياسة الدولية واتجاهاتها المستقبلية وارتباطها بحركة الاقتصاد العالمي والتبادل التجاري بين الدول من دون قيود مفروضة استجابة لاشتراطات العولمة!، اما اذا تناول الشؤون العسكرية والعمليات التعبوية واللوجستية فانه يتحدث وكأنه قائد عسكري محنك خاض غمار الحروب التقليدية ببراعة.. ثم ببراعة ينتقل المنهج ذاته معطيا ومبررا دواعي واسباب الانتقال الى الحروب الحديثة التي هي استخباراتية بالدرجة الاساس، فيقوم بتحليل البيانات ومعطياتها ليمنح أحقية وقوعها بزمن قياسي وان لا تكلف خسائر في الارواح او المال، بل يعطي نسبة الرابح فيها لمن امتلك كمّا وافيا من المعلومات الدقيقة عن العدو المفترض!.. أما اذا تحدث في الآداب فانه من ابطالها الجهابذة المهمين ولا يفوته ان يذكر الروايات التي قرأها ويحفظ عن ظهر غيب عناوينها وتاريخ نشر الرواية وعدد مرات طبعها وحتى أسماء ابطالها وآراء النقاد فيها.!. وحين يتحدث عن العلاقة الجدلية بين الفنون التشكيلية بذائقة الذاتية للمتلقي في لحظة التجلي والتماهي مع السرد البصري الممتد الى آفاق غير مرئية وما يمكن ان يخلق لديه من اثراء ابداعي ، ولا ينسى هذا المتقيئ أن يسرد اسماء المدارس الفنية بعناوين من صنع خياله اللحظوي وخاصية كل مدرسة وتأثر وتأثيرالواحدة بالأخرى وتحديد مناطق القبول والنفور والاندماج والتلاقي والتباعد بينها وهذا امر بديهي يمكن وقوعه في ضوء تعدد المدارس ! ، ان مثل ألسن هذه الشخصية واحدة يمكن أن تكون حاملة لفيروس ادعاء المعرفة وركوب موجاتها لتسليط الضوء عليه بهدف ان ينال مساحة واسعة من الاعجاب بعمق ثقافته!، وقد يشعر المستمع البسيط الذي لا يمتلك المعلومات التي يحفظها هذا الأنموذج، بالتقزّم امام الطود الشامخ (المتسلح !) بالثقافة الموسوعية العميقة، ويمتلك هذا الدعي القدرة الفائقة على سحب الجمهور الى مناطق نفوذه وتحديد اقامتهم بما يشبه التنويم المغناطيسي !؟
ولكن.. وهو الاستدراك الكبير.. في اللحظة الراهنة التي نسميها الآن ، في عتمة جائحة كورونا القاتلة وما يتعرض له العالم من تداعيات خطيرة وعجز المؤسسات الصحية المرموقة في مواجهة هذا الوباء، نراه وقد نزع ثوبه المألوف وارتدى صدرية الطبيب ليقدم الى عامة الناس المرعوبة النصائح والعلاج الناجع لإبعاد شر الفيروس عنهم نهائيا ، ولهذا يمكن طرح السؤال: من منا لم يصدق نماذج هؤلاء ولم ينخدع بهم ؟