حي مار مخايل التراثي في بيروت: من ملتقى للأصدقاء إلى ركام

بانوراما 2020/08/07
...

بيروت/ أ ف ب
 

في منطقة مار مخايل، النقطة الأقرب إلى مرفأ بيروت والتي لطالما شكلت ملتقى الشباب خصوصاً، لم يبق شيء على حاله غداة الانفجار الضخم. أبنية تراثية عمرها مئات السنين تصدعت، حانات ومعارض تطايرت واجهاتها وتبعثرت مقتنياتها وسط الشارع.
أثناء توزيعها المياه والطعام على السكان المشردين من منازلهم المدمرة، تقول لينا داوود (45 عاماً) «كان شارع مار مخايل نبض الحياة في بيروت».
مكان مجهول
وتضيف «ما حصل جنون، وكأنني أدخل مكاناً مجهولاً. لم يخطر ببالي يوماً، حتى خلال أيام الحرب، أن أرى شارع مار مخايل بهذا الشكل».
وقدر محافظ بيروت مروان عبود أن كلفة الدمار والأضرار التي طالت بيروت تراوح بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار. وقال «نحو نصف بيروت تضرر أو تدمر. إنه وضع كارثي لم تشهده بيروت في تاريخها»، مشيراً إلى أن نحو 300 ألف شخص باتوا مشردين من منازلهم.
في منزل أثري يزيد عمره على مئة عام، يجمع ميشال أسعد الزجاج المتناثر في دلو. 
ويبدو المنزل من الداخل وكأن إعصاراً ضخماً مرّ به ولم يبق شيئ في مكانه. وكان أول ما فعله أن اعادة تمثال للعذراء إلى مكانه رغم أنها فقدت رأسها.
ويقول ميشال (53 عاماً) «عشت في هذا المنزل حياتي. وكنت على وشك أن أموت هنا».
يتحسر ميشال على صالات المعارض في الشارع وعلى طابعه التراثي الذي ذهب من دون عودة. تصدعت مبان بشكل كبير وأخرى تدمرت أسطحها وجدرانها.
ويقول أسعد «أنا واحد من مئات، وربما الآلاف هنا. نجونا من الموت ولكن من سيعوضنا؟».
وجراء قطع الزجاج المتناثر يمينا ويساراً، لم تعد رؤية الإسفلت في الشارع ممكنة. وعلى جانبي الطريق وحتى في وسطه، توقّفت سيارات مدمّرة وقد انفجرت أكياس الحماية الهوائية فيها، فيما ينتظر أصحابها مجيء شاحنات لنقلها.
 
حرب عالمية ثانية
يسير عشرات بين الركام حاملين حقائبهم لينضموا إلى عشرات آلاف الأشخاص الذين باتت منازلهم غير قابلة للسكن أو دمرت تماماً.
انشغل عمال الإغاثة بالبحث عن ناجين في المنازل المهدمة، وأخرجوا إمرأة من صالون منزلها المدمر وهي جالسة على كرسي خشبي.
أمضى خليل خمسين عاماً من حياته في مار مخايل بينها سنوات الحرب الأهلية (1975 - 1990). ويقول واضعاً كمامة على وجهه «خلال الحرب كانت تسقط قربنا قذيفة أو قذيفتان، لا بأس، كنا نحمي أنفسنا، وننزل إلى الملاجئ».
ويضيف خليل (78 عاماً) «لكن ما حصل أمس لم يمرّ علينا يوماً، ولا حتى في الأحلام كنا نتخيل شيئاً مماثلاً».
لم يتخط سكان الحي هول الصدمة، وسيحتاجون إلى وقت طويل جداً للتعافي، بعدما فقد شارعهم نبضه وكل ما كان يمثّله في بيروت.
يمرّ أحد الأشخاص، ينظر من حوله مذهولاً، ويردد «كما لو أنها الحرب العالمية الثانية»، وقربه إمرأة لم تتمكن من كبح بكائها وصراخها وهي تشرح لصديقتها على الهاتف المشهد من حولها.
على مرّ السنوات، تحوّلت منطقة مار مخايل من أحياء سكنية قديمة ومتواضعة إلى شارع مليء بالحانات والمطاعم على أنواعها.
لكن هذه المرة، لم تكن الزحمة ناجمة عن زوارها الكثر الباحثين عن الترفيه، بل مكتظة بسكانها المشردين الباحثين عما تبقى من منازلهم، وكأن معاناة اللبنانين جراء الأزمات المتتالية لا تكفيهم.
وبينما كانوا يتابعون بعجز انهيار الاقتصاد في بلدهم ويعيشون تبعات هذا الوضع الهش الذي أضيف إليه وباء (كوفيد – 19)، أتى انفجار مرفأ بيروت ليشكل أكبر كوارثهم.
تنهمك تالا مصري (18 عاماً) بكنس الأرض وإزالة الركام. وتقول «كان شارع مار مخايل منزلي الثاني».
وتضيف «حتى في ظل فيروس كورونا المستجد وكل ما حلّ على البلد، كان لدي أمل.. أما الآن فقد فقدته».
 
تنظيف بيروت
وفي أحد أحياء العاصمة اللبنانية الذي اعتاد شبابه السهر في شوارعه، تأبط الشبان والشابات المكانس وتطوعوا في تنظيف شارع تحول إلى ما يشبه ساحة حرب إثر الانفجار الضخم في مرفأ بيروت، بدون انتظار تحرك من الدولة المتهمة بالفساد والإهمال.
بسخرية شديدة، تتساءل ميليسا فضل الله (42 عاماً) «أين هي الدولة؟»، مضيفة «لو كان لدينا دولة فعلاً لكانت أرسلت من ينظف ويعمل معنا لتنظيف الشارع. نحن من يساعد، نحن من يتبرع بالدم، ماذا يفعلون هم؟».
وميليسا واحدة من مئات آلاف اللبنانيين الذين خرجوا إلى الشوارع في تشرين الأول ولأشهر طويلة مطالبين بإسقاط الطبقة الحاكمة بالكامل متهمين اياها بالفساد والإهمال وعدم ايجاد حلول للأزمات المتلاحقة التي أدّت الى انهيار اقتصادي غير مسبوق.
وجاء الانفجار الذي وقع الثلاثاء، متسبباً بمقتل 137 شخصاً وإصابة خمسة آلاف آخرين، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس الممتلئة أساساً.
وغداة التفجير، توافد شبان وشابات بشكل عفويّ إلى حي مار مخايل، النقطة الأقرب إلى مرفأ بيروت والتي لطالما كانت ملتقى للشباب، لم يبق شيء على حاله غداة الانفجار الضخم. أبنية تراثية عمرها مئات السنين تصدّعت، حانات ودور عرض تطايرت واجهاتها وتبعثرت مقتنياتها وسط الشارع.
وضعت ميليسا قفازين وكمامة على وجهها، وحملت لوحاً زجاجياً كبيراً سقط أمام مبنى شركة كهرباء لبنان. 
وقالت: «بالنسبة إليّ، هذه الدولة مجرد مزبلة»، في إشارة إلى الطبقة الحاكمة مضيفة «نحن من يحاول إصلاح البلد، نريد إصلاحه على طريقتنا، ومثلما نريد نحن وليس هم».
ويتفقد عناصر من الدفاع المدني المباني المتضررة بحثاً عن جرحى، فيما يتوزع الشبان والشابات المتطوعون في مجموعات صغيرة، فيزيلون قطع الزجاج ويضعونها في أكياس بلاستيكية ضخمة، وبعضهم يعرض بيته على سكان المنازل المتضررة.
ويقول حسام أبو النصر (30 عاماً) «نرسل أشخاصاً إلى بيوت العجزة والمعوقين لنساعدهم على إيجاد منازل ينامون فيها، نساعدهم أيضاً على تنظيف بيوتهم وترتيبها».
ويضيف «ليس هناك من دولة للاهتمام بهذه الإجراءات، تولينا الأمر بأنفسنا».
 
فليتركوا السلطة
ومنذ صباح الأربعاء، تنتشر رسائل على مواقع التوصل الاجتماعي من سكان في مدن وبلدات عدّة يبدون فيها استعدادهم لايواء عائلات تضررت بفعل الانفجار. وأعلن مجلس المطارنة الموارنة فتح الأبرشيات والمؤسسات والأديرة التابعة له لمساعدة المتضررين.
في مار مخايل، وُضعت جانباً طاولات بلاستيكية عليها زجاجات مياه وأكياس من السندويشات والطعام.
وتقول ريتا فرزلي (26 عاماً) «نحاول أن نساعد بالمياه والطعام وحتى الشوكولا، إنه مجرد دعم معنوي»، مضيفة «على الجميع أن يساعد، لا يجدر بأحد البقاء في المنزل.. حتى الابتسامة تساعد اليوم».
وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات على الهواتف الجوالة رسائل من أصحاب شركات الزجاج والتصليحات تعرض خدماتها بأسعار زهيدة. كما عرضت مجموعة من الشباب خدمة مجانية لمساعدة السكان على إصلاح منازلهم.
ويقول عبدو عامر (37 عاماً)، صاحب شركة تركيب نوافذ، إنه قدم عرضاً مشابهاً إثر نجاته من الانفجار، إذ صدف أن عبر بجوار المرفأ قبل «ثلاث دقائق» من وقوعه.
ويعرض عامر استبدال النوافذ بنصف سعرها الأصلي، كما يعرض تقديم نوافذ مجاناً للعائلات الأكثر حاجة.
ويقول «تلقيت أكثر من سبعة آلاف اتصال»، متسائلاً «هل علينا أن ننتظر الدولة؟ نريد منهم أن يتركوا السلطة».