علي شايع
ضمن روايته (في قبوي.. مذكرات من العالم السفلي)، يصف الكاتب فيودور دوستويفسكي عبر التحليل العميق والنظرة الحاذقة، ما تستبطنه كوامن الإنسان من هواجس ودوافع باتجاه الخير أو الشر. بطل الرواية يعترف؛ (موظفاً شريراً، فظاً غليظاً كنت، وكان ذلك يُمتعني. لم أكن – كما قد تتصورون- ارتشي. لذلك، كان لا بد لي من أن أتحصّل بالضبط، على ما يعوضني عن خدماتي، حتى وإن كان ذلك بتلك الطريقة: كنت في بعض الأحيان، حين يتقدم الى مكتبي بعض الراغبين في قضاء مآربهم، ملتمسين مني أن أقدم لهم معلومة من المعلومات، أستقبلهم وأنا أصكّ على أسناني، ولحظة أصل الى إذلالهم، وجعلهم يشعرون بالمهانة، أحسّ بنشوة ما بعدها نشوة، وكنت أصل الى ذلك، كل يوم تقريباً).
تلك الرواية كُتِبت عام 1864، ولعلّها أبكر الأعمال الأدبية الحديثة التي تكشف عللاً وعقداً يعاني منها بعض الموظفين. ورغم ما تلاها من آثار أدبية كثيرة، إلا أنها بقيت ذات وقع وأثر، وهي بالتأكيد اضافة تربوية لما ورثته الإنسانية من وصايا أوردتها الكتب السماوية ونادى بها الأنبياء والأولياء، وأفنى فلاسفة جلّ أعمارهم ليبثوها ارشاداً ومواعظ، تؤرق الضال بحسن النصيحة.
إن العمل الوظيفي هو جهد إنساني مدفوع الثمن، وعليه فالموظف ملتزم بالأداء المهني مقابل ما يتحصّل عليه من راتب، ويكون لزاماً عليه الاجتهاد والمثابرة، دون تقاعس أو تكاسل أو توان، مدفوعاً نحو الأفضل؛ بشاغِلٍ إنساني عميق، وضميرٍ وظيفي حيّ.
أمس وضمن ما يصل من مقاطع فيديو، من متداول وسائل التواصل الاجتماعي شاهدت مادة فيلمية تظهر مراجعين يزدحمون على شباك دائرة حكومية، متوسلين موظفاً يصرّ على إغلاق نافذة المراجعة، بينما يلوذ أحد المراجعين متصبباً عرقاً تحت قطعة كارتون؛ تارة يستعملها كمهفّة وأخرى يضعها على رأسه اتقاءً لشمس الهاجرة، متوسلاً مَنْ في الغرفة المكيفة، وموجهاً كلامه الى من يشاهد الفيديو: "أنظروا يا عالم وشوفوا بأعينكم الظلم، يجلسون في التكييف ويعاندون على بقائنا في الشمس حتى نهاية الدوام". ويعود بلهجةٍ حانيةٍ متوسلةٍ مخاطباً الموظف في الغرفة: أرجوك يا أخي، الشمس أحرقت رؤوسنا!. فيرده الصوت من الداخل: لتحرقكم. سيقول قائل ربما يكون المشهد مفبركاً بكيدية الإساءة الى موظفينا، لكن والحق يقال، وأُشهِدُ الله بأني كنت ضحية موقف مماثل، ولعلّ آلاف الضحايا يشاركونني الأسى الآن، فحكايات تنمّر الموظفين على مراجعيهم كثيرة، تبدأ ولا تنتهي.
كلّ موظف هو مواطن لا بد أن يكون مراجعاً يوماً ما في دائرة أخرى، وعليه أن ينتظر تعنيفاً كالذي يعمل به، ولا يتوانى عنه مع الناس، أو أشد وأقسى، لأنه حينما يسيء فهو يظلم نفسه أولاً، وكأنما هذه بتلك والبادئ أظلم. ولو أن كلّ من مرّ بهكذا موقف اتّعظ واعتبر لحلّت مشكلتنا منذ أمد بعيد، وما وصلنا الى ما نحن عليه من مهالك ومراتع للتعسف والإِضْرار الجائر. فلا تعجل على أحدٍ بظلمٍ.. فإن الظلمَ مرتعه وخيم.