لغات غير موجودة على الانترنت

بانوراما 2020/08/19
...

ميغيل ترانكوزو تريفينو
ترجمة: مي اسماعيل
تهيمن الانكليزية وحفنة من لغات اخرى على الانترنت؛ لكن هذا يترك الثقافات الوطنية المحلية بلا صوت على الانترنت، ومنهم من يعمل على وضع لغاتهم على الشبكة، عندما تمنعك منصة التواصل الاجتماعي المفضلة لديك من وضع مساهماتك باللغة الانكليزية، أو لا تسمح لك لوحة المفاتيح بالطباعة بلغتك الخاصة، سيكون أمامك خياران: إما التحول الى لغة اخرى، أو البقاء صامتاً رقمياً،، فهذا هو الواقع الذي يعيشه أغلب الناطقين بلغات ولهجات أصلية محلية. 
هناك نحو سبعة آلاف لغة ولهجة حول العالم، ومع ذلك فان ما ينعكس منها في المواد المنشورة على الانترنت لا يتجاوز السبعة بالمئة؛ وفقا لبيانات حملة «المعرفة لمن؟» الهادفة للتعريف بثقافة المجتمعات المهمشة على الانترنت، وفيما توجد نحو 110 لغات على منصة «فيس بوك»، مما يجعلها منصة التواصل الاجتماعي الاوسع تعددا لغويا؛ لكن مسحا نشرته اليونيسكو سنة 2008 وجد أن نحو 98 بالمئة من صفحات شبكة الانترنت تُنشر باثنتي عشرة لغة فقط، وأن أكثر من نصفها بالانكليزية، وهذا يقلل التنوع اللغوي على الانترنت لحفنة من اللغات فقط؛ ما يزيد صعوبة تعامل المتحدثين باللغات المستثناة من الشبكة معها.
 
«حياة رقميَّة بلغتي»
يضم مجتمع «كاتشكيل» من شعب المايا أكثر من نصف مليون متحدث؛ منهم «ميغيل آنجيل كوميز» أحد منظمي أول مهرجان بأميركا اللاتينية للغات الأصلية على الانترنت، الذي اقيم سنة 2019، يقول «ميغيل»: «عندما اطلع على الانترنت أجد إن نحو تسعين بالمئة من المحتوى هو باللغة الانكليزية، وبعدها نسبة كبيرة بالاسبانية ولغات اخرى، لذا تعين علّي التحول الى لغة اخرى، وهذا يقود لإزاحة لغتي، إنه اجحاف بحق لغتي الخاصة؛ لأنها (وبسبب غيابها عن الانترنت) ليست فاعلة، وبالتالي لا تنتشر؛ إذا لماذا استمر بتعلّمها؟ ولماذا سأعلمها لأولادي؛ حينما اعجز عن ايجادها على التلفاز أو الانترنت؟»، يعمل «أوغلاج كوميز» مع ناشطين آخرين لإعداد نسخة من موسوعة ويكبيديا بلغة «كاتشكيل» المايا، اضافة الى نسخة مترجمة من متصفح «موزيللا فاير فوكس- Mozilla Firefox web browser»، وحلمه أن تصبح له «حياة رقمية بلغتي، وحينما أريد الانتقال الى لغة اخرى سيكون ذلك قراري».
هذا ليس حلم «أوغلاج» وحده؛ ففي سنة 2003 تبنت اليونيسكو توصية بتنمية التعدد اللغوي على شبكة الانترنت، ومنذ ذلك الحين دفعت المنظمة باتجاه تنوع اللغات، مع تركيز خاص على لغات السكان الأصليين، كانت المشكلة الاولى (ولعلها التحدي الأكبر) هي امكانية الوصول؛ فطبقا للبيانات العالمية يملك نحو 58 بالمئة فقط من سكان العالم امكانية الوصول الى البنية التحتية للانترنت، وبينما يعيش نحو 76 بالمئة من مستخدمي الانترنت في كل من أفريقيا وآسيا والشرق الاوسط وأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، يأتي الجزء الأكبر لمحتوى الانترنت من اماكن اخرى، ففي موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال، نجد أن أكثر من ثمانين بالمئة من المواضيع تأتي من أوروبا وأميركا الشمالية، وكذلك الحال مع 75 بالمئة من مساحات الانترنت الأعلى انتشارا؛ من «كوم-،com « الى «أورغ-،org»، التي تأتي من تلك المنطقتين، يقول «ميغيل»: «هناك صعوبات عدة؛ والمسائل التقنية احد جوانبها فقط، فلوحات المفاتيح مصممة للغات السائدة فقط، ولا تأتي بحروف لغات السكان الأصليين، وطالما أن المنصات تستخدم الاسبانية أو الانكليزية أو غيرها، أجد أنني عندما أكتب بلغتي الخاصة يقوم المصحح الآلي باستمرار بتغيير النص».
 
ضعف التنوع اللغوي
هناك مستويات متعددة لهذا الانقسام اللغوي؛ من الاجهزة (مثل لوحات المفاتيح) الى لغات البرمجة، ومن مجالات المواقع «website domains» الى التطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي، ليكون نقص التنوع اللغوي أول فجوة (من سلسلة فجوات) تحول دون استخدام جميع اللغات الأصلية تقريبا في المحادثات على الانترنت، ترى «فيكتوريا آغليير» أن المشكلة الاساسية هي قيام المجتمعات بنقل التفاوتات الاجتماعية الهيكلية ذاتها من الحياة العامة الى الانترنت: «نحتاج للعمل كثيرا حول «الموقعيات المحلية»، لتطبيق التكنولوجيا الملائمة لاحتياجاتنا، الانترنت قناة رائعة للتواصل؛ لكنها تعكس وتنقل أيضا اللامساواة من العالم الواقعي، كما إن اسلوب اهمال بعض أنماط الكتابة أمرٌ يؤثر على حقيقة أننا لا نستطيع الكتابة بحرية على الانترنت، نحن بحاجة لتقنيات تسمح لنا بتفعيل تلك اللغات»، «فيكتوريا» من المتحدثين الأصليين بلغة «ميكستيكو- Mixteco» (منطقة جنوب المكسيك، المترجمة)، وهي طالبة لغات بجامعة المكسيك الوطنية، وتعمل اليوم مع مصمم لتقديم حروف طباعية «typeface» جديدة يمكن استخدامها للكتابة على الانترنت بلغتها الخاصة وهجائيتها الصحيحة، وجدت فيكتوريا أثناء عملها أن عضوية العالم الرقمي سلاح ذو حدين؛ فهي من جانب تساعد على اظهار ثقافات السكان الأصليين، لكنها تخشى أن يُعجّل انتشار الانترنت السريع من اختفاء لغات الاقليات، قائلة: «اذا لم نُسرِع الآن باعداد التكنولوجيا المطلوبة لمساعدتنا فقد تعمل ضدنا؛ إذ قد تجرنا نحو التجانس مع اللغة الاسبانية في حالة المكسيك.. انه وقت مفصلي بالنسبة للغات؛ مع وجود فورة الانترنت وتزايد البيانات التي يُدخلها الافراد»،  
 
مسؤولية المنصات التكنولوجية
هناك تقدم في بعض مجالات تمثيل اللغات المتنوعة رقميا، باعطاء رموز للأرقام والحروف وحتى رموز التعبير «emojis» واستخلاص نصوص تمثل عشرات وربما مئات اللغات، وأكدت دراسة اجرتها مختبرات أوكسفورد المعلوماتية أن «هذا التقدم يعزز تمثيل اللغات الأصلية المحلية على الانترنت، ويعمل على تقليل مستويات تواجد اللغة الانكليزية عالميا». اعترفت موسوعة ويكيميديا بالكفاح لجعلها أكثر تنوعا وتعددا لغويا، وباتت الموسوعة التعاونية (منذ سنة 2019) تنشر مقالاتها بــ307 لغات؛ ما يجعلها المنصة الأكثر تنوعا على الانترنت، يقول «خوزيه فلورس» نائب رئيس مؤسسة ويكيميديا بالمكسيك، التي تعمل لتنويع المحتوى بالتعاون مع شخصيات مجتمعية لتقديم نحو ستين لغة أصلية منطوقة في البلد: «تقع على المنصات التكنولوجية مسؤولية توفير اساليب النفوذ الى تقنيات تمثيل تلك اللغات وتقليل ضيق منافذ الوصول للانترنت، وهناك مسؤولية على الدول ايضا»، لكن تلك الفجوة لا يمكن اغلاقها بواسطة شركات التكنولوجيا بمفردها؛ كما يقول خوزيه: «يبدو لي أن الجهات الاكاديمية والمجتمعات ذاتها، وحتى الصحافة والاعلام، جميعها مسؤولة، فالحاجة كبيرة للمزيد من الموارد لبناء مقالات ويكيبيديا».
تواجه هذه المساعي مشكلة غياب التوثيق الثقافي للغات الأصلية وكون بعضها غير مدونة أساسا؛ وهذا عائق كبير وسط عالم يعتمد على الوثائق المكتوبة، وفي غواتيمالا يعي ميغيل كوميز حجم التحديات المقبلة وتعقيدها وصعوبتها؛ لكنه لا يفقد شجاعته، قائلا: «نعد التحديات فرصا، وفي ورشات عملنا طرحت تساؤل: ما ضرورة وضع لغتي على الانترنت؟ فأجابني أحد الناشطين: ولماذا لا أضع لغتي الأصلية على الانترنت؟»