أسرة ابراهيم والمكالمة التي لن تصل أبداً

بانوراما 2020/08/22
...

لويزا لوفلوك
ترجمة: ليندا أدور
كانت أسرة ابراهيم رعد تتابع شاشة التلفاز من منزلها بمدينة طرابلس، شمالي لبنان، وقد ملأها الرعب لدى مشاهدتها تصاعد سحابة «الفطر» عاليا في السماء لتتناثر بعدها بيروت، على وقع موجة الصدمة. فجأة، بدأت الشاشة تومض وتنطفئ بسبب انقطاع التيار الكهربائي المحلي، لتنقل لهم الأخبار، كلما عاد التيار، عن مذبحة قد حدثت للتو، لكن في هذا الوقت، إلتزمت هواتفهم المحمولة الصمت، دونما خبر عن ابنهم البكر
لم يكن من المفترض حتى أن يكون ابراهيم هناك، في بيروت، فمع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد، طلبت منه والدته ترك المدرسة والبحث عن فرصة عمل، لكنها أرادت فقط أن يجدها في طرابلس، لكن، حتى اليوم الذي حزم فيه حقائبه وغادر المنزل، لم يدر بمخيلتها أنه سيغادر الى العاصمة.
 
خوف يملأ البطون
حتى بعد مضي الأسابيع على انفجار (2750) طنا من نترات الأمونيوم، والذي أدى الى تدمير مرفأ بيروت وطمس أجزاء واسعة من معالم المدينة، ما زالت هواتفهم صامتة ويخيم على المنزل مشهد الحزن. «لمَ لم يتصل بنا حتى الآن؟» تسأل رانية، والدة ابراهيم، باستمرار، عن ابنها البالغ 19 ربيعا بقولها: «كان يجب أن يتصل بنا، ومن الضروري أن يعود الى المنزل».
ومع تجاوز عدد قتلى الانفجار170 شخصا وأكثر من ستة آلاف جريح، واستمرار فرق الدفاع المدني اللبنانية منها والأجنبية بتمشيط موقع الانفجار والركام، ما زال العدد الحقيقي للمفقودين غير معروف بالضبط، ولا تملك أسرة ابراهيم أدنى فكرة إن كان ابنهم على قيد الحياة أم لا. تقدّر منظمة الصليب الأحمر اللبنانية عدد المفقودين بنحو 38 شخصا، رغم أنه لا توجد قائمة مركزية بأعدادهم. يقول مروان عبود، محافظ بيروت:»لا توجد قائمة لكي نستند إليها في بحثنا، ففي مثل هذه المواقف، عادة ما توضع قائمة لنبدأ البحث على ضوئها، نحن نبحث تحت الركام من دونها، ولا نعلم متى يجب ان تنتهي عمليات البحث». لجأت أسر المفقودين في لبنان وسوريا وغيرها من أجزاء العالم الى مشاركة صور أحبائها على مواقع التواصل الاجتماعي، بالانتظار، والخوف يملأ البطون. 
داخل ردهات مشفى بيروت التي دمرها عصف الانفجار الهائل، تملأ أسر الجرحى والمفقودين ممراتها وأرصفة الشوارع المحيطة بها منذ ليلة الكارثة، اذ تحدث أطباء، في أربعة من كبرى مستشفيات العاصمة، عن قيامهم بفرز المصابين والجرحى بعرض صورهم على أسرهم وأصدقائهم المتجمعين قرب المشفى لكي يتعرفوا على من كان مجهول المصير. يقول جوزيف خليل، من مستشفى الجعيتاوي ببيروت، «كانت هناك سيدة كبيرة في السن، لا يمكنني نسيانها، كانت تحمل صورة، وتقول بأنها ذهبت لثلاثة مستشفيات قبل ان تأتي الى هنا، ولم تعثر عليه، لا يمكن أن أمحوها
 من ذاكرتي».
 
حياة صعبة وأزمة خانقة
في عموم أنحاء بيروت، أقامت مجموعات طبية، مؤخرا، خياما ليتمكن أقارب المفقودين من تزويدهم بالحمض النووي للمساعدة في التعرف عليهم. تأمل أسرة ابراهيم أن تشارك بعينات من حمضها النووي، لكنهم من مدينة طرابلس، لا يعرفون حتى من أين يبدؤون، فهم لا يعرفون سوى مدينتهم، ولا أحد لديهم في بيروت، ما عدا ابنهم. 
نشرت رانية صورة ولدها ابراهيم على مواقع التواصل الاجتماعي مصحوبة برقم هاتفها، والصحفيون كانوا الوحيدين الذين تداولوها. «لم يشاهده أحد، ولا أحد يعلم عنه شيئا»، تقول رانية بصوت مرتجف وهي تبكي: «ماذا نفعل؟ رحل هو عنا ونحن باقون هنا، أخبروني، ماذا عسانا أن
 نفعل؟».
تحدثت عن ابنها البكر عندما كان في السابعة من عمره، تقول إنه كان طفلا شقيا ومشاغبا، ففي أحد الأيام، أغلق الباب عليها لدى دخولها الحمام، وبدأ بالرقص بصخب على الموسيقى غير آبه لصراخها وهي عالقة داخل الحمام. بعد سنوات، بدأ يقلد جميل، والده، الذي كان يعمل سائقا لمعلمي البلدة.. كان ابراهيم يجلس في مقعده ويتظاهر بأنه يقود السيارة ويطلب من إخوته وأخواته أن يهدؤوا خلال الرحلة. وعندما كبر، أصبحت الحياة صعبة، كانت البلاد تمر بأزمة مالية تتزايد حدتها تدريجيا، حتى قبل الاضطرابات المالية الأخيرة، إذ انخفضت قيمة الليرة اللبنانية وزادت أسعار المواد الغذائية ثلاثة أضعاف. حينها، قرر ابراهيم ترك المدرسة لمساعدة أسرته في كسب رزقها، وتنقل بين الأشغال. لكن والده أراد أن يجد له عملا ثابتا، فتشاجرا، شعر ابراهيم بعدها بأنه عاجز.
 
رقم خارج الخدمة
في إحدى ليالي شهر كانون الأول الماضي، طلبت رانية من ولدها أن يجد لنفسه وظيفة ثابتة: «لم يخطر ببالي أنه سيذهب الى بيروت، لم أطلب منه ذلك». ومع مطلع هذه السنة، وبهدوء، غادر ابراهيم شقتهم الضيقة، كان يتصل بأسرته بين الحين والآخر، لكن بعد اشتداد حدة الشجار مع والده، توقفت اتصالات ابراهيم، والرقم الذي لديهم لم يعد في الخدمة. بدأت رانية، بين وقت وآخر، بالتواصل مع أصدقائه الذين يعرفونه، لكنها علمت أنه يرغب بالبقاء وحيدا، وبأنه يعرف كيف يمكنه التواصل معهم.
ومع انفجار بيروت، شعرت الأسرة بالضياع، فلا يمكنهم تحمل تكلفة وجبة الطعام، ولا حتى دفع أجرة السائق الذي سيأخذهم الى بيروت، وحتى إن ذهبوا الى هناك، فهم لا يعرفون ماذا سيفعلون: «انها مدينة كبيرة»، يقول جميل، مضيفا: «ولا نعرف من أين نبدأ». 
وسط الحطام، تستمر عمليات البحث عن رفات المفقودين بمساعدة الكلاب البوليسية والجرافات، إذ يتم كل يوم العثور على عدد غير قليل من الجثث، يقول حسين شحرور، الطبيب الشرعي التابع لوزارة العدل اللبنانية، بأنه أحصى أكثر من 40 جزءا من أشلاء أجسام بشرية خلال ثلاثة أيام فقط،وتم وضعها في أكياس: «لا نعرف قد تكون رأسا ورجلا لشخص واحد او ربما هي بقايا لعدة أشخاص».
 في غضون ذلك، تقف رانية عند شرفة شقتها، تنتظر، لكن ابراهيم لم يعد الى المنزل، وعندما سمعت صوت سيارة تمر وموسيقى الراب تصدح منها، ابتهجت وقالت إنه هو بالتأكيد، لكنه لم يكن هو. أما والده جميل فيشعر بالذنب، ويلوم نفسه، ولدى سؤاله لِمَ لمْ يطلب من ابنه مجرد العودة، لم تكن لديه إجابة، واكتفى بطأطأة رأسه.. 
منكسرا.