ثوابت أحكام الإسلام والعنف الأسري
اسرة ومجتمع
2020/08/28
+A
-A
هادي عزيز علي
ما ان أعلن عن إرسال مسودة قانون (الحماية من العنف الأسري) إلى مجلس النواب حتى اشرأبت الأصولية ممسوسة هلعة متباكية على الثوابت الإسلاميَّة، وقبل أن يقرأوا نصوصه أو يطلعوا على مضامينه، رغم امتلاك المشروع لمرجعيته الدستورية في المادة 29 منه، وانسجامه وتماهيه مع مبادئ الشريعة الاسلامية، لكون فلسفة التشريع، وفي مناسبات عديدة، تلزم السلطة التشريعية بأن تسن قوانين خاصة استجابة لحركة المجتمع المستمرة وتطوره، أو لحدوث وقائع جديدة شكلت ظاهرة توجب التغطية التشريعية، بسبب عدم كفاية النظام التشريعي النافذ في معالجتها، أو انه لا يتضمن أصلا نصوصاً تغطي الوقائع الجديدة تلك.
الأحكام العقابية
فعلى سبيل المثال إنَّ الأحكام العقابية في قانون العقوبات لم تعد كافية أو غير مجزية للتعامل مع الاتجار بالبشر، ولخطورة الأخير ولآثاره المدمرة على المجتمع، ولكونه يدار من قبل مافيات ذات بناء مؤسسي متين، وبغية التعامل بحزم مع هذا الموضوع وتغليظ العقوبة، فقد بادر المشرع إلى سن قانون خاص به تحت اسم (قانون مكافحة الاتجار بالبشر) رقم 28 لسنة 2012. وللأسباب والمعطيات ذاتها فقد أصدر المشرِّع قانوناً خاصاً باسم (قانون مكافحة الإرهاب) رقم 13 لسنة 2005، لأنَّ قانون العقوبات لم يعد يغطي الوقائع التي يفرزها الإرهاب.
فضلاً عما تقدم، فإنَّ بعض الدول عندما وجدت أنَّ الأحكام العامة المتعلقة بالطفل تضمنت موضوعات الرضاعة والحضانة والنفقة، وانه بحاجة إلى نظام تشريعي أفضل ومتكامل، فقد قامت بسن قوانين حماية الطفل، لكي يلبي جميع احتياجاته منذ تشكيله جنيناً لحين بلوغه سن الرشد. هذه التشريعات الخاصة مدعاة لتغطية وقائع لم تعالجها التشريعات النافذة، والأمر ذاته ينطبق على الوقائع الجديدة التي أصبحت ظاهرة من خلال الأسرة، المتمثل في الضرر المتكرر الذي يصيب الأسرة نساءً ورجالاً وأطفالاً، الذي وصل إلى حد القتل كقتل النساء، أو طرد الأبوين العاجزين، أو السعي لتدمير شخصية الطفل أو إيذائه أو حتى قتله، أو إجبار الأطفال على الزواج أو التسول، وسواها من الوقائع الأخرى تكون مدعاة لإصدار قانون خاص يحمي الأسرة، ويشكل رادعاً عاماً وخاصاً لكل من تسول له نفسه ارتكاب العنف في الأسرة.
إنَّ مشروع القانون المطروح الحالي وسّع من نطاق الأسرة، ولم يكتف بتعريف الأسرة الوارد في القانون المدني (المادة 38 منه)، لكونه تعريفاً مبتسراً لا يغطي أفراد الأسرة المطلوب حمايتهم. إذ إنَّ المشروع الحالي وسّع من نطاق سريانه، فشمل الزوج والزوجة وأبناءهم من فراش الزوجية أو من زواج سابق، والأحفاد والوالدين والأخوة والأخوات لكلا الزوجين، وكذلك المشمولين بالوصاية والقيمومة والضم، ومن كان في كنف الأسرة. ويبدو أنَّ الرؤية الذكورية المتجذرة في الفكر الأصولي وخلفهم من الأحزاب ذات الخطاب السياسي الديني، لم ترق لهم مضامين المشروع بوصفها تهديداً لسلطانهم ولا مناص لديهم – وكما هو معتاد في مواقف كهذه – سوى رفع عقيرتهم والاحتماء بثوابتهم.
وقبل الدخول في موضوع كهذا لا بدَّ لنا من الوقوف على ما تعنيه الثوابت.
فما هي ثوابت أحكام الاسلام؟
للإجابة على هذا السؤال نجده في ما استقر عليه الفقهاء المسلمون، أنها إما أنْ تكون أحكاماً قطعية أو أحكاماً ظنية. وخلاصة ذلك وجدناه في حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر، المشهود لرئيسها وأعضائها حينئذ سعة العلم والاحاطة بالأحكام الشرعية والموروث الفقهي، بحكمها الصادر في القضية 201/ قضائية دستورية / 23 في 15 /11 / 2002، عندما ردت طعناً بقانون الخلع واعتبرته لا يتناقض ومبادئ الشريعة الاسلامية، الذي جاء فيه: (لا يجوز لنص تشريعي يصدر في ظله أنْ يناقض الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، باعتبار أنَّ هذه الأحكام وحدها هي التي يمتنع الاجتهاد فيها، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية ثوابتها التي لا تحتمل تأويلاً أو تبديلاً، وليست كذلك الأحكام الظنية في ثبوتها ودلالتها أو فيهما معاً، فهذه تتسع فيها دائرة الاجتهاد فيها تنظيماً لشؤون العباد، وضماناً لمصالحهم التي تتغير وتتعدد مع تطور الحياة وتغير الزمان والمكان، وهو اجتهاد وإنْ كان جائزاً ومندوباً من أهل الفقه، فهو في ذلك أوجب وأولى لولي الأمر، ببذل جهده لاستنباط الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي، ويعمل حكم العقل في ما لا نص فيه، التي لا تضفي قدسية على آراء الفقهاء في شأن من شؤونها، ولا تحول دون مراجعتها وتقييمها، وإبدال غيرها التي لا تناقض المقاصد العليا للشريعة).
معلوم أنَّ النظام التشريعي العراقي وقبل صدور دستور 2005 يطلق على ثوابت أحكام الاسلام تعبير (مبادئ الشريعة الإسلامية) كما هو منصوص عليه في القانون المدني وكذلك قانون الأحوال الشخصيَّة.
ومن هذا النص الوارد في حكم المحكمة الدستورية العليا، نخلص إلى أنَّ الثوابت هي الأحكام القطعية التي جاءت بها الشريعة، التي لا تخضع للاجتهاد وأنْ تغيرت الأزمان والأماكن هذا اولاً، أما ثانياً فإنَّ الأحكام الظنية هي التي يجوز بها الاجتهاد وتتسع دائرته فيها، وهو البحث عن الحكم الشرعي الذي يعمل فيه حكم العقل. وهذا يعني أنَّ الأحكام الظنية ما هي إلا منتج بشري، وثالثاً ان الحكم الظني ولكونه منتجاً بشرياً يتغير ويتطور بتغير الأزمان والأمكنة، فلا تطاله القداسة والحالة هذه.
ومن المعلوم انَّ اشتغال الفقه على هذه الأحكام منذ مباشرة المؤسسة التفسيرية عملها، وما رافقها من نشاط فقهي أفضى إلى ظهور العديد من المذاهب الإسلامية المنتجة لثوابتها، حتى باتت ثوابت المذهب الفلاني تختلف وتتقاطع وتتناقض مع ثوابت المذهب الآخر. وأصبح كل مذهب يعتقد انه الوحيد الحائز على ثوابت الدين الإسلامي، ويسعى إلى فرض هذا الاعتقاد طوعاً، وفي حالة عدم الاستجابة فرضه كرهاً، وهنا تكمن الخشية، إذ بإمكان هؤلاء أنْ يعطلوا أي تشريع يسهم في بناء الدولة المدنية عندما يدفعهم الأمر بالتحجج بثوابتهم، خاصة أنَّ مسودة قانون المحكمة الاتحادية العليا أعطت الصلاحيات الواسعة لخبراء الفقه الإسلامي خلافاً لمقاصد المشرع الدستوري.
ولكي لا نتيه في لُجّ الأحكام الفقهية، فإننا نضرب بعض الأمثال– اختصاراً - للثوابت ذات المصدر القرآني حصراً، لكي نتلمس قرب مشروع القانون منها أو ابتعاده عنها. ففي الآية 23 من سورة الإسراء النص التالي: [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً].
إنَّ الأبناء المتحدين لحكم هذه الآية الذين يلقون بوالديهما أو أحدهما قرب باب دار العجزة وينصرفون عن طيب خاطر، هم الأشخاص الذي استهدفهم مشروع القانون للضرر الذي لحق أحد أفراد الأسرة، والسعي إلى إيداعهم في المراكز الآمنة حفاظاً لكرامتهم أولاً، وتأمين حمايتهم ثانياً. لذا يكون نص المشروع منسجماً تماماً مع الأحكام المتعلقة بالوالدين.
منظومة تشريعية للنساء
حظيت المرأة بحضور لافت في العديد من النصوص القرآنية، اذ ذكرت في السور القرآنية التالية: (النساء، الطلاق، البقرة، المائدة، النور، الأحزاب، المجادلة، الممتحنة والتحريم)، التي شكلت منظومة تشريعية خاصة بها، ومن ضمن نصوصها الآية 228 من سورة البقرة: [ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف]. الواردة في نص السورة أعلاه، وهو ما تناولته كتب التفاسير بشيء من التفصيل، إذ يقول ابن كثير: ( فليؤد كل منهما للآخر ما عليه، أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن). والتماثل حسبما يقول الطاهر بن عاشور: المثل يعني النظير والمشابه، إذ قد يكون مشابهاً في جميع صفاته أو بعضها. وعندما قال الرئيس التونسي الراحل (السبسي) بالمساواة بين المرأة والرجل، لقي هذا القول الترحيب والمؤازرة والتأييد من قبل (مجلس الافتاء في الجمهورية التونسية) بقوله إنَّ ديننا الحنيف ساوى بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات مسببين هذا التأييد بالاستناد لحكم الآية (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). هنا يأتي دور مشروع القانون للتصدي لأي من الزوجين عندما يخل أو ينتهك مبدأ المساواة هذا ليشكل رادعاً للسلوك المخالف له.
[الطلاق مرتان فأمساك بمعروف او تسريح بأحسان .. ] البقرة 229. والآية: [ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا] البقرة 231. والآية: [.. ولا تعضلوهن لتذهبوا ما أتيتموهن] النساء 19. لا تعضلوهن تعني لا تقهروهن وتضاروهن في العشرة الزوجية. هكذا أذن حكم النصوص بالنسبة للطلاق. إلا أنَّ جانباً كبيراً من الفقه الإسلامي أطلق للزوج اليد الطولى في الطلاق أنّى شاء وحيثما رغب، فنتج عنه ما يعرف بالطلاق التعسفي الذي يقع خارج المحكمة وبمباركة من بعض رجال الدين، فكان للفقه معوله ولرجال الدين معولهم في تفكيك الأسرة وإيقاع الطلاق حتى من دون تسبيب، استناداً للفهم الخاطئ لموضوع القيمومة. ومن حكمة المشرع العراقي أنه تصدى لهذا النوع من الطلاق، وألزم المتعسف بدفع تعويض للمطلقة متى ما أصابها ضرر جراء ذلك وهو النوع الغالب لدى المحاكم تلك، ليجيء المشروع ليتصدى للفاعل ليس بالتعويض عن الضرر حسب، بل بعده مرتكباً فعلاً يُعد جريمة بحق المطلقة لإصابتها بالضرر والأذى تماهياً مع النصوص القرآنية تلك.
[ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة] الروم 21. هكذا رسمت هذه الأحكام المعايير التي يجب أنْ تقوم عليها مؤسسة الأسرة، لأنَّ التأسيس بُنيّ على ميثاق وليس حسب التوصيف الفقهي، لكون الثابت نصاً في هذا الموضوع هو الميثاق: [اخذن منكم ميثاقا غليظا] النساء 21. الأمر الذي دفع المشرع المغربي وفي مدونة الأسرة أنْ يعرّف الزواج بأنه: (ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على الدوام غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة.) المادة 4 منه. لذا فإنَّ أي فرد من أفراد الأسرة لا ينسجم مع الأحكام تلك، ويسيء للاستقرار أو يفسد المودة وينبذ الرحمة ويجافي السكينة، يجب أنْ تعيده النصوص القانونية إلى الوضع الذي كان عليه، وإلا عدّ متمرداً يلحقه الجزاء، وهذا ما ذهب اليه المشروع. مما تقدم، يتضح أنَّ المشروع لا يعارض أحكام الشريعة الإسلاميَّة.