في الوقت الذي يطمح فيه العديد من الناس إلى امتهان حرفة الكتابة والحصول على كتاب واحد في الأقل ممهور بتوقيعهم الشخصي يؤسس لسيرة ذاتية لإبداعهم ويترك بصمتهم الخاصة في هذا العالم، فإن أغلبهم قد لا يعي ماهية هذه الحرفة.
من أين يحصل الكاتب على أفكاره، كم من الوقت يستغرقه إكمال كتاب أي كتاب كان، ماذا يحصل إذا ظهرت مشكلة ما وتعثرت عملية الكتابة في منتصف الطريق أو كيف يدرك الكاتب بأنه وصل إلى خاتمة الكتاب وليس هناك ما يمكن إضافته، الأهم من ذلك، كيف تبدو حياة الكتابة هذه؟.
“الكتابة في مفهومها الشامل عملية غامضة وغارقة في عالم الإبداع المبهم”، يقول الكاتب الأميركي لورنس. آر. صموئيل؛ وهو باحث مستقل ومؤرخ ثقافي.
يقول صموئيل: “ليس من المستبعد أن نجد من الناس من يتطلع إلينا باستغراب ونحن نكتب، فهم يتساءلون ربما عما إذا كان ينبغي علينا فعل شيء آخر غير التفكير العميق وصياغة الكلمات وتدوينها بتسلسل معين، بينما يميل بعضهم إلى إشراك كاتب بمحادثة جانبية أثناء عمله من دون أن يدركوا بأن هذا السلوك قد يتسبب في إرباك فعل الكتابة وإلهاء الكاتب عن الاستغراق الجاد في صياغة أفكاره، ربما يرى البعض بأن هذا العمل ليس بالجدية والأهمية التي تتصف بها أعمال أخرى...”.
في الواقع، يضيف لورنس صموئيل، “تقوم عملية الكتابة على الالتزام بروتين قياسي ومحدد، فوجود هذا الروتين هو الذي يشكل الفارق بين النجاح والفشل، في حين يمكن أن نجد أشخاصاً أكثر ذكاء من الكاتب لديهم قصص أفضل ليسردونها، وربما يمتلكون موهبة فذة لكن هذا غير كاف، فالمحترفون هم الذين يعرفون كيف ومتى يستخدمون مواهبهم ومهاراتهم، إذ نجدهم بمرور الوقت يطورون عادات معينة لزيادة معدل انتاجيتهم إلى أقصى حد، وخلق بنية ملائمة لإبداعهم، لهذا فإن بعض الكتاب يبالغون في تشكيل البيئة الموائمة للتحضير والاستعداد للبدء بالعمل، مع ثقتهم المطلقة بأن أي تغيير قد يشوب نمط النشاط المعتاد من شأنه أن يترك آثاره السلبية على مستوى الكتابة والإنتاجية على حد سواء”.
طالما كان الغموض والغرابة يحيطان بيوميات الكتّاب المحترفين بيد أن بعضهم قد تنتابه مشاعر الوحدة حتى وهو في خضم تواجده بين الناس، في زحام الطرقات، في المواصلات العامة والمقاهي وحتى في البيوت، الكاتب لا يُعد موجوداً محسوساً في هذا العالم لكنه في الوقت ذاته غير مفصول عنه، خارج الحياة وداخلها في الوقت ذاته، ولا يستطيع من ثم أن يرسم حدوداً خاصة بأوقات العمل واللاعمل.
يستطيع أصحاب الشأن أن يجدوا تفسيراً لهذه الفكرة المعقدة بطريقتهم الخاصة من دون أي تحفظ فالأمر بسيط للغاية، إذ أنه لا يتعدى كونه نشدان مشروع لـ “شيء من العزلة وبعض من الشعور بالوحدة، وكلاهما يقعان في صميم عملية الكتابة”، كما تصفه نانسي سبرينغر؛ كاتبة أميركية متخصصة في روايات الخيال العلمي وأدب الأطفال، مشيرة إلى أن الكتّاب في حقيقتهم مجرد مراقبين للأشخاص المشاركين الفعليين في الحياة. في الوقت ذاته، يبدو بأن من العسير على الكتّاب المحترفين أن يشاركوا تماماً في كل ما يجري حولهم، فليس باستطاعتهم التحرر تماماً من كونهم مجرد مراقبين لما يحدث، الأحداث التي يستقون منها مادتهم الخام، على العكس من المعلمين والمحامين وأصحاب أغلب المهن، فضلاً عن ذلك فإن الروائيين خاصة يجدون أنفسهم لا إرادياً منفصلين تماماً عن المجتمع وقد تحولوا إلى شخصيات تتحرك داخل قصص من تصميمهم الخاص، هذا ما يسميه البعض بـ “حياة الكتابة”، الذي يعكس مفهوم التوجه الأدبي الشامل للكتّاب وهو مفهوم لا يوجد ما يعادله في مهن أخرى إلا ما ندر، ومنها مهنة الأطباء الجراحين
مثلاً.
يعد عدم قدرة الكاتب عن الانفصال عن عمله بهذه الطريقة نوعاً من الإدمان، إذ تتداخل ساعات الليل بالنهار، النوم باليقظة، عدا ذلك، يعمد بعضهم للاستيقاظ صباحاً والذهاب مباشرة إلى ورشة الكتابة خاصته لمواصلة وإتمام ما تركه في اليوم السابق، مع وجود تفاعل اجتماعي ضئيل أو معدوم مع الآخرين. إن العالم الذي يخترعه الكاتب ليعيش في داخله ليس مؤهلاً للبشر، أسوأ ما في الأمر أنه سيعتاد بالتدريج على العزلة ثم قد يزعجه تدخل بعض الأشخاص في محيطه الاجتماعي الضيق في محاولة لإشراكه بحديث جانبي مهما كانت أهميته، وربما تمضي أيام عدة من دون أن يجري محادثة وجهاً لوجه مع إنسان آخر، مع ذلك، يحاول بعض الكتّاب أن يضعوا قيوداً على عملهم فيعمد بعضهم لإغلاق جهاز الكمبيوتر في أوقات محددة، لكن مثل هذه الجهود لا تنجح في الغالب إذ أن إغراء الكتابة لا يدانيه أي إغراء آخر.
من جانبها، الكاتبة والروائية من جنوب أفريقيا شيلا كوهلر، صاحبة كتاب “عندما كنت جين إير”، تنظر لفعل الكتابة بوصفه بحثا للإجابة عن مجموعة من الأسئلة الملحّة، “من أنا، من أنت، ما هو جوهر حالتنا الإنسانية؟ لماذا نكتب؟”.
في الأغلب، فإن الكتابة عمل صعب إن لم يكن مؤلماً لكنه في المقابل مصدر كبير للتحرر من المخاوف وقناع يضعه البعض باختيارهم للانفصال عن واقع لا يتواءم وشخصياتهم الحالمة.