الأطفـال وعقـد الآبـاء النـفسيـة

ريبورتاج 2020/09/07
...

 بغداد : فجر محمد
 
في كنف أبٍ قاسٍ لا يفهم سوى لغة العنف والضرب تربى (ح، ض) وقضى تلك الطفولة العصيبة، التي يتذكر تفاصيلها طوال سنوات حياته، إذ يقول: كان أبي يضربني لأتفه الاسباب، وفي إحدى المرات كنت ألعب مع ابن عمي الصغير، وكنا نتبادل الضربات والصراخ والركض في أرجاء المنزل، ثم أمسك بي وصفعني بشكل مؤلم ولم تستطع والدتي أن تبعده عني إلا بشق الأنفس، لا أستطيع أنْ أتذكر من والدي إلا تلك اللحظات التي كنت أرى فيها شرر الغضب والاستياء تفر من عينيه، واليوم بعد أنْ أصبحت أباً، أشعر بأنه أورثني تلك العصبية، فأنا غالباً ما أضرب صغاري ثم أندم لاحقاً.
حماية
منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) أعربت مؤخراً عن حزنها البالغ وقلقها الشديد بشأن التقارير الحالية المتواصلة بشأن العنف ضد الأطفال في العراق، إذ بدأ يتصاعد بشكل ملحوظ منذ بداية انتشار كورونا، وقالت المنظمة في بيان لها: "يفترض أنْ يكون المنزل هو المكان الذي يشعر الأطفال فيه بالأمن، لكنه لم يعد كذلك بالنسبة إلى هؤلاء الصغار، فمنذ بداية جائحة كورونا لاحظت اليونيسف وشركاؤها زيادة ملحوظة في حالات العنف والإساءة ضد الأطفال داخل منازلهم وعلى أيدي أولياء أمورهم أو مقدمي الرعاية لهم"، مشددة على أنَّ "هذا أمر غير مقبول"، وحثت اليونيسيف السلطات العراقية على "اتخاذ إجراءات فورية ضد مرتكبي هذه الإساءات، لأجل ضمان حماية الأطفال وتعزيز شعورهم بالأمان في جميع المواقف والسياقات، لأن الأطفال يتمتعون جميعاً بحق العيش في حياة خالية من العنف والترهيب".
مؤكدة "مواصلة دعمها لحكومة العراق بما في ذلك ضمان وجود خطوات واضحة يتم اتخاذها من أجل منع الإساءة بكل أنواعها".
 
اعتقاد خاطئ
وفي دراسة سابقة اجرتها اليونسيف تبين أن أكثر من 80 بالمئة من الأطفال في العراق يعيشون العنف، سواء في المنزل أو في المدرسة، وهناك أسباب كثيرة لهذا النوع من العنف، فالوضع لم يستقر بعد، كما أن الاعتقاد السائد في المجتمع بأن الضرب هو الوسيلة الأفضل لتعليم الطفل الدراسة، وأن يكون مطيعا وهو فكر متجذر في العراق والمنطقة عامة، وهذا يسهم بشكل كبير في توسعة ظاهرة العنف، فضلا عما واجهه المجتمع العراقي من تجربة كانت صعبة خلال السنوات الأخيرة، سواء بسبب الحروب أو عدم الاستقرار، وكل ذلك كان سببا في زيادة نسبة العنف ضد الأطفال.
 
ضربٌ مبرح
ينظر(ح، ض) الى باطن كفه الأيمن وكأنه يسترجع ذكرى لشيء ما حفر عميقا في داخله، ويحاول أن يبعد ناظريه مرارا وتكرارا عنها لكن من دون فائدة، ويروي الثلاثيني كيف ان والده كان يعاقبه بالضرب المبرح على كف يديه بأي آلة، خشبية كانت أم حديدية من دون اكتراث، اذ يبين أنه في إحدى المرات كان يلعب برفقة شقيقته الصغيرة وتصادف ذلك مع عودة الأب من عمله، ولأن الصغار يعشقون اللعب والصراخ، فكان هذا دائما سببا لغضب الأب وعصبيته المفرطة، مما افقد الوالد صوابه فضربه بشكل مؤلم مازال أثره باقيا الى اليوم. 
 
حقوقٌ دستوريَّة
 الدستور كفل حق الاسرة والطفل، اذ منع العنف والتعسف والتمييز بكل إشكاله تماشياً مع المعاهدات والاتفاقات، التي انضم العراق إليها والتي تتعلق بهذا الشأن، ولخصوصية الأسرة والمرأة والطفل وبما يتلاءم مع حقوق الإنسان والمعايير والمواثيق الدولية بهذا الخصوص، لذلك قامت وزارة الداخلية وبناءً على توصية اللجنة العليا لحماية الاسرة المشكلة بموجب الامر الديواني (80) لســنة 2009 باستحداث مديرية حماية الاسرة والطفل من العنف الاسري، اذ تعمل هذه المديرية على استقبال الشكاوى وقضايا العنف، وبالفعل تسلمت هذه المديرية الكثير من القضايا وتابعتها من اجل التقليل من ظاهرة العنف والضرب الذي وقع ضحيته الكثير من الاطفال.
 
رادعٌ قانوني
الاكاديمية والناشطة المدنية الدكتورة بشرى العبيدي لفتت الى وجود الكثير من الحملات التي قام بها الناشطون المدنيون، من اجل اقرار قانون يمنع العنف الاسري، خصوصا ضد الطفل، فمنذ عام 2010 يحاول هؤلاء الناشطون الضغط على الجهات الرسمية لاقراره، ويذكر ان الناشطين قد التقوا المرجعيات الدينية، التي ابدت دعمها واسنادها لاي قوانين واجراءات بمقدورها الحفاظ على كيان الطفل والاسرة، وما زالت الجهود مستمرة لاقرار هذا القانون، خصوصا في ظل زيادة العنف ضد الاطفال واستخدام اساليب وحشية وقاسية تصل الى الضرب والحرق والجلد والحبس، فضلا عن حالات القتل الكثيرة، التي راح ضحيتها الكثير من الاطفال والصبية. وبينت العبيدي أن القضاء العراقي لم يغب عن باله وضع عقوبة لمن يقوم بايذاء الطفل بضرر او بدونه كالحرق والتنكيل والاغتصاب، فلكل واحدة من هذه الجرائم والجنح عقوبات خاصة، وفي ما يخص فترة الحجر الصحي، فقد شهدت البلاد حالات عنف ضد الاطفال بشكل مريع جدا ولان القوات الامنية منشغلة بتطبيق الحظر، فقد ادى الى ذلك انتشار العنف بمناطق ومدن مختلفة.
 
القشرة الفارغة
الباحث بالشؤون النفسية والاجتماعية ولي الخفاجي بين، ان العنف ضد الاطفال ليس وليد اليوم، وبسبب الضغوطات الكبيرة التي تواجه الأسر العراقية واضطرار الأب الى المكوث بالبيت في فترة الحظر الوقائي، ادى ذلك الى بقاء افراد الاسرة لأوقات طويلة مع بعض وجها لوجه، فضلا عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهتها الاسر ضعيفة الدخل، حيث فقد الكثير من ارباب الاسر وظائفهم واعمالهم وهذا سبب لهم التوتر ودفع الاباء الى افراغ شحنات الغضب على الاطفال وبقسوة.ويوضح الخفاجي أن هناك مصطلحا أوجده باحثو علم النفس والاجتماع وهو( أسرة القشرة الفارغة)، حيث يعيش افرادها امام الملأ بشكل مثالي، في حين جوهر حقيقتهم يخلو من التقارب والتلاحم الاسري، بل ويشيع جو الغضب وعدم التفاهم في ما بينهم.
 
ضوابط اجتماعيَّة
وأشار الخفاجي الى أن غياب الضوابط الاجتماعية والانسانية التي كانت تربط الأسر مع افرادها ومع المجتمع هو احد الاسباب التي ادت الى ظهور حالات من العنف وفقدان السيطرة على الاولاد من جهة، وغياب سلطة الابوين وتاثيرهما الصحيح في أبنائهم من جهة اخرى، حيث بدأت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال المختلفة بلعب دور المربي، لأن الاطفال اصبحوا يقضون اغلب اوقاتهم متسمرين امام شاشات هواتفهم الخلوية واجهزتهم الذكية، وبعيدين عن انظار ابائهم وتوجيهاتهم ومتابعتهم المستمرة، ويرى الخفاجي ان المنابر الدينية والاعلام والمنظمات المدنية، لا بد من أن تأخذ دورها الحقيقي والفعلي في توعية الأسر، لاسيما الاطفال والمراهقين بضرورة التحلي بالاخلاق الحميدة، فضلا عن تفعيل القوانين والتشريعات والاتفاقيات التي تحفظ حياة الاطفال وتحمي كرامتهم، واعطاء دور اكبر للباحثين الاجتماعيين وحثهم على زيارة المناطق، التي يسودها العنف الاسري للاطلاع على مسبباته الحقيقية وايجاد العلاجات الضرورية.
 
مظاهر العنف
الباحثة بالشؤون الاجتماعية والنفسية الدكتورة ندى العابدي قالت: إن صور ومشاهد العنف التي تعج بها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت والالعاب الالكترونية العنيفة، التي استقطبت الاطفال والمراهقين على حد سواء، كانت بمثابة رسائل هادمة للمجتمع، اذ بدأت الرغبة لدى الافراد لتقليد هذه المظاهر من دون وعي بخطورة وعواقب هذا الامر، خصوصا ممن يعانون من الامراض النفسية والعصبية المفرطة، ولكن ابرز حالات العنف كانت موجهة ضد المرأة والطفل بشكل خاص، فضلا عن اهمال المشكلات النفسية، التي يعاني منها عدد كبير من افراد المجتمع بسبب الحروب والازمات الاقتصادية والاجتماعية، التي ضربت البلاد منذ عقود طويلة، ولذلك من المفترض ان يخضع الافراد الى العلاج والمشورة والنصيحة النفسية لتجاوز المشكلات التي يعانون منها.