مواليد الحقبة الشيوعيَّة في الصين

بانوراما 2020/09/09
...

 بين ويستكوت
  ترجمة: مي اسماعيل
حينما سيطر الحزب الشيوعي الصيني على السلطة قبل اكثر من سبعين سنة؛ شعرت أسرة «ما جيانغو» بحماس شديد، بحيث أطلقت على ولدها اسما تيمنا بما كانت تأمل أنه بداية حقبة جديدة، ويعني الاسم حرفيا: «بناء وطن». يقول «ما جيانغو»: «يبدو الاسم مبتذلا بالنسبة لي، ولكن في ذلك الوقت حمل كثيرون اسم جيانغو؛ فقد كان يتعلق بالنمو، وتطور الافراد جنبا الى جنب مع الدولة»
مرت إحدى وسبعين سنة على اعلان زعيم الحزب الشيوعي الصيني الراحل «ماو تسي تونغ» (من بوابة تيان آن مين) قيام جمهورية الصين الشعبية صبيحة الأول من تشرين الأول 1949. كان ذلك تأريخا لبدء واحدة من أكثر الحقب اضطرابا في تاريخ الصين الحديث؛ حولت البلاد من دولة فقيرة وضعيفة الى أحد أقوى الامم على مستوى العالم. 
شهد الصينيون الذين بلغوا عامهم السبعين مع الدولة الشيوعية فترات من المجاعة والفوضى السياسية والتحولات الاقتصادية السريعة.. ويشهدون الآن الثراء غير المسبوق، فمن بين مواليد سنة 1949- «ما جيانغو» (صاحب مكتبة ومحب للقصص المصورة)، و»وو شيينغ» (مزارع)، و»زياو جيانوين» (موظف سابق في أحد المكاتب الحكومية)، عاش الرجال الثلاثة الأحداث ذاتها، ورسمت مسارهم ذات القرارات السياسية في دولة الحزب الواحد، لكن رغم تجاربهم المشتركة فإن منظورهم للماضي يختلف كثيرا؛ خاصة تجاه الزعيم المؤسس «ماو»، يقول المزارع «شيينغ»: «كانت حقبة ماو عظيمة، ورغم أنه جلب بعض الفوضى للصين أواخر حياته؛ فإن مساهماته لا تُنكر»، لكن «ما جيانغو» يقول إنه حينما يفكر في ماو فانه يتذكر المجاعة الكبرى وفوضى الثورة الثقافية.
 
الفجر الأحمر
عندما أعلن ماو قيام الجمهورية سنة 1949 كان الشعب الصيني محطما؛ فقد عاشت الدولة حالة صراع شبه مستمر منذ عشرين عاما؛ بدأت باندلاع الحرب الاهلية بين الوطنيين والشيوعيين سنة 1927، ثم مع اليابانيين سنة 1937، لذا اندفع الشعب نحو وعود السلام والاستقرار؛ لكن الحكومة الشيوعية الوليدة سرعان ما بدأت حملات جديدة قادت لمزيد من سفك الدماء، وحينما تبنى الحزب الشيوعي الاصلاحات لاعادة الارض للمزارعين الفقراء؛ أُعدم نحو مليوني «اقطاعي مالك أرض» في عموم البلاد، لكن ذكريات جيانوين عن الايام الاولى لدولة ماو كانت شبه مثالية. جاء جيانوين من أسرة ثرية نسبيا (ممن يطلق عليهم الحزب الشيوعي تسمية- البرجوازية الصغيرة)، وكان منزلهم في العاصمة قرب ميدان تيان آن مين، نشأ جيانوين وسط ازقة تقليدية جمعته بأربع عشرة أسرة اخرى، هي جزء من مركز المدينة، حيث عاش الاطفال ولعبوا كالاخوة، ويستذكر الاحتفالات الاولى باليوم الوطني (الاول من اكتوبر). وعلى الجانب الآخر من العاصمة عاش جيانغو واسرته بمنطقة مختلفة تماما؛ فهو من أفراد «أقلية الهوي– Hui “، وقد عاش في منطقة مختلفة جنوب غرب المدينة، نشأ جيانغو وحيدا؛ إذ توفى والده بالسل وتركته والدته لتتزوج؛ لكنه ما زال يذكر طفولته بغبطة: “جعلني غياب الوالدين مشاغبا، وكانت المدارس حينذاك أكثر تساهلا”، لكن وراء ظهورهم كان الحزب الشيوعي يدبر حملة ستوقع الدولة في أسوأ مجاعة بالتاريخ وتغير حياة الجميع.
 
أوقاتٌ مظلمةٌ
بدأ ماو أواخر الخمسينات وضع خطط للتغير الجذري في نظامه، الذي كان لا يزال جديدا، بهدف اللحاق سريعا بركب الدول الصناعية، وعُرِفت تلك المجموعة من السياسات الراديكالية عموما بتسمية «القفزة العظيمة الى الامام»، وفي خطاب الى القادة السوفيت ادعى ماو سنة 1957 أنهم خلال 15 عاما.. «سنلحق ببريطانيا العظمى؛ إن لم نسبقها..». غير أن النتائج كانت كارثية؛ إذ عاشت الصين مجاعة كبرى حصدت في نهاية المطاف عشرات الملايين من ارواح الناس، وبحلول العام 1958، حاولت الحكومة زيادة الانتاج الصناعي والزراعي سريعا؛ عبر إلغاء الزراعة الخاصة وانشاء تعاونيات ضخمة، لكن التحولات السريعة الحاسمة، أدت الى انخفاض انتاج الحبوب. 
يتذكر جيانغو قيامه وزملاء المدرسة بالبحث عن طعام؛ يوميا بعد انتهاء الدوام، قائلا: «قطفنا حشائش تؤكل من الحقول، وجمعنا نباتات برية.. كانت الحياة صعبة حينذاك؛ لكننا لم نشعر بالصعوبة لأننا كنا صغارا»، حتى الأسر ذات الخلفيات الموسرة لم تكن بعيدة عن ذلك؛ ففي مركز العاصمة شاهد جيانوين أجداده يموتون (بسبب الجوع حسب اعتقاده)، وعاشت أسرته (التي كانت موسرة) غالبا على بقايا يخنة الفول التي كانت تُعطى سابقا للخنازير، وأصبحت ثيابه أسمالا. يقول جيانوين: «كنا نتناول طعامنا داخل مطعم جماعي ضمن المحلة، ولم يكن هناك ما يكفي من الحبوب، ناهيك عن اللحوم، قالت الحكومة للشعب إن سبب المجاعة هو الديون للاتحاد السوفيتي والكوارث الطبيعية؛ لذا قبل الناس بالامر وقرروا تحمل الصعوبات مع الوطن».  نشأ «وو شيينغ» في قرية فلاحية فقيرة بمقاطعة هوبي، للجيل الثامن من المزارعين، وشهد تأثيرات «القفزة العظيمة» أولا بأول.. ما زال شيينغ يذكر الوصفات التي تناقلها السكان خلال المجاعة؛ مستخدمين البراعم والاوراق، بدلا من الخضراوات المعتادة، وفي مناطق ريفية أخرى أكل الناس الحشائش واللحاء كي يعيشوا؛ قائلا: «لم يرغب الحزب الشيوعي الصيني بتجويع الناس؛ لكن كثيرين ماتوا رغم ذلك». 
في نهاية المطاف جرى ايقاف السياسات الصناعية والزراعية، وأرخى ماو بهدوء قبضته على السلطة بضغط من قادة آخرين في الحزب. ولكنه، وخوفا من أن يفقد الايقاع؛ اطلق احدى أكثر سياساته راديكالية حتى ذلك الحين.. هي الثورة الثقافية.
 
عبادة الشخصيَّة
خطّط ماو للتمسك بالسلطة عبر بناء موجة مهووسة بعبادة الشخصية حوله؛ لكن النتيجة كانت دولة سقطت في الفوضى، حينما مزقت الفرق المتنافسة من مؤيدي ماو الشباب (المعروفين بالحرس الأحمر) الصين إرباً بمباركة من زعيمهم، بدأت الثورة الثقافية سنة 1966، حينما كان الرجال الثلاثة الذين تابعنا مسيرتهم يجتازون سن السابعة عشرة. يقول شيينغ إنه انضم بفرح الى الحرس الاحمر لاعتقاده انه يؤدي خدمة ثورية للشعب والوطن. أما جيانوين فقد انخرط في الحركة، ورسم الملصقات وشارك بالمسيرات؛ لكنه سرعان ما لاحظ تفكك التجمعات القديمة تحت ضغط حركة الجموع، وشاهد والده قيد الاستجواب يوميا، بتهمة (خاطئة) هي العمل مترجما يابانيا.. يقول: «كل شيء بدأ يتغير نحو الفوضى بعد الثورة الثقافية». أما جيانغو فقد انشغل بحماية مجلاته المصورة الثمينة «ليانهانهوا- lianhuanhua “ من فرق الحرس الاحمر الجوالة؛ التي كانت عملية تدمير “الاربعة القديمة” (وتعني كل اشارة لما قبل النصر الشيوعي) جزءا من مهامها، وتلك المجلات كانت تندرج ضمن تلك الخانة.. وعنها يقول إن: “الانطباع الابرز الذي بقي لي عن الثورة الثقافية هو تدمير مجلاتي”. اضطر جيانغو أخيرا لتسليم مئات من مجلاته المصورة (التي تضاعفت قيمتها اليوم كثيرا) ليجري اتلافها؛ خوفا من الانتقام ضد أسرته. لكنه خبأ بعضا من مجموعاته الاكثر قيمة تحت السرير في كيس بلاستيكي؛ رغم علمه أنها ستُتلف إذا جرى اكتشافها، وسيخضع هو للعقاب. 
أنهت وفاة ماو سنة 1976 الثورة الثقافية، التي كانت شديدة التدمير وأثارت الانقسام، حتى أصبحت واحدة من العناصر القليلة المثيرة للجدل خلال حكم ماو، التي اعتُبِرت رسميا من اخطائه. رغم رعب تلك السنوات يرى شيينغ بعض المنافع فيها: “كانت الثورة الثقافية أمراً نحتاجه بالتأكيد؛ استخدمها ماو لتنشئة الجيل القادم من القادة، فتلك الثورة أنشأت وثقفت الرئيس زي جين بينغ”.
 
أغنياء وسعداء
بعد وفاة ماو، نشأ صراع قصير على السلطة، قاد في النهاية الى صعود الزعيم البارز «دينغ زياو بينغ» سنة 1978؛ وساهمت رؤيته بدفع الصين لتبني اصلاحات السوق والرأسمالية؛ تحت شعار «الاشتراكية بخصائص صينية». وبفضل جهود بينغ وهذه الاصلاحات، ارتفعت الصين سريعا من محنة الثورة الثقافية، لتكون ثاني اكبر اقتصادات العالم خلال أربعة عقود. 
اغتبط جيانغو بالتغيرات التي جرت في الصين؛ فقد أدرك أن المجلات المصورة، التي حافظ عليها بعناية خلال الثورة الثقافية، أصبحت الآن عالية القيمة في صين ما بعد ماو، وبدأ يبيعها. يمتلك جيانغو الآن متجرا ناجحا لبيع القصص المصورة وسط بكين، ويعتقد أنه من بين جميع زعماء الصين فإن بينغ كان.. «الأكثر حكمة وذكاءً»؛ قائلا: «من التجارب التي عشتها خلال عهد ماو كانت المجاعة الكبرى والثورة الثقافية؛ ولم تتحسن بموجبها حياة أي من أفراد أسرتي.. لكن بينغ حرر طاقة الأفراد». 
يذكر الرجال الثلاثة دهشتهم للتغيرات السريعة، التي حصلت في الصين.. وقد بدأت بتغيرات صغيرة؛ مثل السماح للمزارعين بالابقاء على فائض محاصيلهم وبيعها.. ثم تقدمت الى ناطحات السحاب وأسواق البورصة وثروات غير مسبوقة. 
يعيش جيانون اليوم في شقة جديدة ببكين، مشاهدا الحياة من حوله تتغير بسرعة؛ إذ أصبح للناس فجأة القدرة على شراء البضائع الاستهلاكية، التي كانت تبدو ترفا في السابق، قائلا: «خلال سنوات التسعينيات، حينما بدأت الحياة بالتحسن، كان الهدف الحصول على تجهيزات المنزل الاساسية: الثلاجة والتلفاز الملون وغسالة الملابس والمكيف، وبالحصول عليها صارت الحياة أكثر حداثة، في ما بعد اتجه الناس الى مستويات اخرى؛ بشراء الشقق والسيارات، فقد اشتريتُ شقة وسيارة، وكانت الحياة أفضل بالتأكيد». 
كانت الفرحة الاكبر بالنسبة لجيانون حينما استطاع أخيرا المشاركة بامتحان «غاوكو -gaokao “ لدخول الجامعة (الذي اعيد العمل به بعد ايقافه) اضافة لتعليمه خلال الثورة الثقافية. بالرغم من ان “غاوكو” يرعب آلاف الطلبة الصينيين كل عام؛ فهو بالنسبة لجيانون فرصة لحياة جديدة، قائلا: “من الذي لا يرغب بتغيير مصيره؟ كلنا يعلم أن الذهاب للجامعة يغير مصائرنا”. رغم أنه كان في الثلاثينات من عمره؛ اجتاز جيانون الاختبار وتخرج حاملا شهادة في الاقتصاد من مؤسسة بكين للاقتصاد. ثم وجد عملا جيد الدخل ضمن مجموعة “أوف شور” الوطنية النفطية التي تديرها الدولة، حتى بلغ سن التقاعد. أنجب الرجال الثلاثة أطفالا في صين حقبة ما بعد ماو، وهم يقولون إن اهتمامات أطفالهم تختلف تماما عن اهتماماتهم حينما كانوا بمثل عمرهم. يقول جيانون عن ابنه: “انه يعيش عمره ما بين صك الراتب الى الراتب التالي، ولا يركز الا على اللحظة الآنية”. يقول ان زملاء دراسته السابقين واصدقاءه جميعا منقسمون بالرأي حول إرث ماو في الصين؛ كما هو حال أغلب الصينيين، وإن ماو إرتكب اخطاء؛ لكن مساهمة الزعيم السابق تجاه الصين تفوق أي مثالب.. “لم تكن مهمة ماو سهلة”.
 
مستقبل زاهر
ما زال شيينغ يعيش حياة متواضعة في مزرعته بمقاطعة هوبي، وقد تقاعد من العمل الحقلي منذ سنين، ويعيش أولاده واحفاده في المدينة، ويزورونه حينما يستطيعون. لم تهز السنوات السبعون من التغيير ايمان شيينغ بالزعيم ماو ولا بالحزب الشيوعي، وما زال يتحدث بحماس عن الرئيس الحالي وادارته، والعمل الذي يقدمونه للدولة. وبفضل الثراء الاقتصادي المتزايد صار باستطاعته السفر خارج الصين ومتابعة هوايته في علم الفلك.. يقول: «ثمانية أجيال من افراد اسرتي كانوا أميين؛ وكنت أنا أول فرد منهم يستطيع القراءة والكتابة، لم يستطع كثيرون رؤية كسوف كلي للشمس طيلة حياتهم؛ لكنني رأيته تسع مرات من مواقع متميزة، لذا أنا انسان سعيد جدا». لا يخطط جيانغو للتقاعد؛ فهو كثير الانشغال بمتجره لبيع القصص المصورة؛ وبدلا من «بناء الأمة» بات أكثر اهتماما بالحفاظ على الثقافة الصينية التقليدية (خاصة القصص المرسومة) للأجيال القادمة. يقول: «لدي عدد كبير من المجلات الصينية في منزلي؛ لكن ابني نشأ على قراءة المجلات اليابانية والكورية، وتأثر بها كثيرا». كانت تجارب السنوات السبعين ثقيلة الوطأة عليه، وهو يُحجم عن مناقشة السياسة المعاصرة، قائلا فقط إنه يأمل للرئيس الصيني الاستمرار بالحفاظ على التراث الثقافي الصيني التقليدي: «أعتقد أن وجود أي دولة يعتمد على ثقافتها».  بعد سنوات من تصنيف اسرته ضمن «البرجوازية الصغيرة»؛ يعيش جيانوين اليوم حياة مرفهة نسبيا في بكين، بعدما تقاعد من وظيفته الحكومية ليقضي وقته مع اولاده.. ويمكن القول إن أسرته قطعت مسيرة أشبه بدائرة كاملة.. وبضمان مستقبل أولاده؛ لا يجد جيانوين سببا للشكوى من الحزب الشيوعي ولا قادته، بل يعتقد أن أي تحرك نحو نظام سياسي يقوم على الانتخاب سيقود غالبا الى تهديم الوحدة وتشظي الوطن: «ستنشأ فجأة مئة أو ربما ألف حزب سياسي، وسيصوت الناس للحزب الذي يدفع لهم أكثر.. ستكون الصين في فوضى اذا طُبقت الديمقراطية الحقيقية».
 
• سي أن أن الاميركية