دروسٌ من الثورة الحسينيَّة

ثقافة شعبية 2020/09/09
...

   باسم عبد الحميد حمودي
تتخذ صورة استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، صورة الملحمة الشعبية الاستشهادية التي يُتداولُ ذكرها كل عام بصورة معمقة عبر تجسيدها خطباً ومآتم وزيارات - تفاصيل صولة الحق على الباطل -, عبر مجابهة الظلم التاريخي الذي لا يقف عند زمان ومكان بارتفاع صوت الحرية التي قدمت من الحجاز لتعلن صوتها وإرادتها في أرض كربلاء, أرض الطف التي منحتها تلك الملحمة قداسة المكان والتاريخ.
أربع محطات
وتتخذ هذه الملحمة التاريخيَّة محطات أربعاً, لكل محطة صورة شعبية تناغم الصورة التاريخية, تأخذ منها وتعطيها.
وتبدأ المحطة الأولى ببدء التحضير للرحلة من الحجاز، حيث ينصح محمد بن الحنفية أخاه الحسين بعدم السفر الى العراق سعياً لمجابهة الحكم الأموي هناك, ولا يرى الإمام الحسين (ع) في تخوفات أخيه ابن الحنفية ما يبرر السكوت على الباطل, بل يستجيب لنداء ممثله مسلم بن عقيل الذي كاتب ابن عمه من الكوفة طالباً منه الإسراع بالتحرك قادماً، فالكل يريد الحرية, والكل يريد للحسين قيادة الأمة والانتصار على الباطل وطرد ممثلي يزيد المغتصب.
تنقسم هذه المحطة الى أربعة أقسام, أولها ما سبق الحوار بين الإمام الحسين ومحمد بن الحنفية, وهو وصول رسائل العراقيين الى الحسين باعتبار أنَّ أرض الكوفة مهيأة للثورة على ممثل الحاكم الأموي وانتدابه مسلم بن عقيل للسفر الى الكوفة واللقاء مع العراقيين واختبار ولائهم وقدرتهم على التصدي للحكام الخارجين على مبادئ الحق, لتخرج منها صورة درامية أخرى توضح مدى ولاء أهل الكوفة لآل علي بن أبي طالب عليه السلام, ثم تحلى ذلك ببيعتهم وصلاتهم خلف مسلم بن عقيل في مسجد الكوفة والقسم على الجهاد, ثم حركة والي الكوفة الأموي عبيد الله بن زياد, وإدراكه نوازع الضعف الإنساني، إذ أخذ يهدد الناس بالقتل واقترافه بقسوة ويغري من يغريه بالدينار شرط التخلي عن مسلم بن عقيل, في وقت يجتاح فيه جيش يزيد الكوفة ليقتل من يقتل استعداداً للمواجهة القادمة مع جيش الإمام الحسين القادم.
تلك المواجهة التاريخيَّة التي جرت على أرض الطف والتي تسبقها مأساة التعدي وحصار ممثل الإمام الحسين في الكوفة, المجاهد الشاب المؤمن بثورته وقيمه, مسلم بن عقيل حيث يطارده المنقلبون على إرادة الحق ليقتل صابراً محتسباً.
قبيل ذلك كان مسلم قد دخل مسجد الكوفة ليصلي بالناس فلم يجد أحداً خلفه, عندئذ أدرك تخلي المناصرين عن إمامه فأرسل لابن عمه رسالة تدعوه للعودة الى الحجاز لأنَّ القوم قد انقلبوا عليه.
تقع الرسالة بيد جند عبيد الله الذي كان يبحث عن مسلم حتى أمسك به وقتله شهيداً, بعد محاكمة صورية أعلن فيها نصرة الحق على الباطل وتمسكه بقيم الإسلام وثورته وهي قيمٌ لا تأتلف ودعوة يزيد الدنيويَّة المتخلية عن الدين وحربه لأهل بيت الرسالة المحمدية, فكان القتل وكان الدم المراق.
 
وصول جيش الحسين
يبدأ القسم الثاني من هذه المأساة البطولية بوصول جيش الحسين الصغير الى الطف, وهي جزءٌ من كربلاء الكبرى اليوم, وهو (جيش) لا يعد جيشاً بالمفهوم العسكري حتى القديم منه.
هم سبعون رجلاً وامرأة وطفلاً وصبياً, منهم المقاتل القوي الشكيمة والمراس مثل الإمام العباس بن علي عليهما السلام, أحد أجمل وأشجع فرسان قريش بأسرها, وبينهم الطفل الصغير الذي يحمل السلاح مؤمناً ومن دون أنْ يستطيع استخدامه بيسر, وهو علي الأكبر, وبينهم العقيلة الصابرة زينب بنت الإمام علي "ع" وشقيقة الإمام الحسين, وراعية بيت النبوة التي لا تألو جهداً في مباركة الجهاد وحماية النساء والأطفال من براثن جيش يزيد الذي يجابه مجموعة الحسين الصغيرة عدداً الكبيرة إيماناً, بقوة عسكرية متكاملة, زادها الحبروت والخروج على بيت النبوة غِلاً وحقداً.
وتكون المجابهة التي حسدها التاريخ بين مجوعة الإمام التي سعت أولاً إلى حقن الدماء عبر السماح لها بالعودة الى الحجاز من دون قتال, لكنَّ المارق عبيد الله بن زياد والي الكوفة (الذي كان هارباً من مسجد الكوفة أيام بيعة مسلم) أمر قائده عمر بن سعد بن أبي وقاص (ووالده سعد ابن عمة النبي الأكرم!) أنْ يمنع الحسين من العودة الى الحجاز وأنْ يصحبه الى دمشق ليبايع يزيد بخلافة كاذبة يرفضها الهواشم وسواهم ممن آمنوا بالإسلام حقاً.
هو أمرٌ يدرك عبيد الله وعمر بن سعد, أنَّ الحسين الثابت الجنان وممثل المبادئ الإسلامية الحق لن ينفذه أبداً وهو أمر أدركه مبعوثهما الى الحسين القائد الحر الرياحي, إذ تأكد أنَّ الحسين ما جاء الى الكوفة ليبايع يزيد على منصب معطوب شرعاً, انه جاء الكوفة ليؤكد الأمانة ويقيم العدل ويحقق مبادئ الإسلام التي خرقها يزيد وأعوانه.
لقد استشهد شقيقه الأكبر الحسن بن علي عليهما السلام زمن معاوية وقد دعا قبل هذا الى صلح مؤمن لئلا تسفك الدماء بديلاً له فاغتيل مسموماً بدفعٍ من معاوية, وها هم أنصار ابنه يزيد يريدون (اغتيال) الحسين معنوياً بقبوله بيعة يزيد, وهو أمر سخط الإمام من طلبه.
قال الحسين لمبعوث الأمويين الكثير من صور الفرق بين الحق والباطل ونبهه الى مبادئ الله السمحاء ومروق جماعته عنها وأنه وهو الحسين لن يختار غير طريق الإسلام والحق والحرية, انَّ نيل الشهادة غاية أمانيه إنْ لم يقم العدل السماوي على الأرض.
هنا يبدأ القسم الثالث الذي صنع منه الرواة والمذكرون كل عام إطاراً شعبياً، حيث يبدأ الأبطال الحسينيون بالمواجهة مع جيش يزيد بما تؤكده الوقائع, فارساً بعد فارس وشجاعاً بعد آخر حتى تتكامل الصورة بقتل الإمام الحسين وحز رأسه الشريف وقيادة السبايا من نساء وأطفال الى دمشق حيث يزيد وقومه الشامتين بمقتل ابن نبي الأمة ويا لهم من مسلمين ويا له من خليفة يعب زقاق الخمر وليس له من الإسلام إلا الكلام الأجوف الذي افتضح بقتل إمام الأمة وابن نبيها الأكرم.
 
سفر العقيلة
ويكون القسم الرابع متصلا بسفر العقيلة زينب الى دمشق ومجابهتها يزيد بثبات وعودة الركب الصابر الى حيث أراد الله.
إنَّ آلاف الروايات الشعبية الي تصور سنوياً وقائع السفر والاستشهاد ومرد الرأس في اليوم الأربعين, تزيد فصول المأساة تألقاً وتقدمها للناس دروساً في الشجاعة والصبر والعناء في سبيل إحقاق المبادئ والحقوق.